ظهر الاستئصال في عقب الانتخابات التشريعية لسنة 1991 التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فتم على إثرها إقالة الشاذلي بن جديد، ثم قّرّرت المؤسسة العسكرية التي كان على رأسها الجنرال خالد نزار إلغاء نتائج الانتخابات والانقلاب على خيار الشعب الجزائري، بدعم من النخبة العلمانية السياسية والمثقفة، وبدعم من فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية، ومن تم اعتقال قادة الجبهة وإلقاء آلاف الجزائريين في السجون وتشريد آخرين في العالم. الاستئصاليون الذين قاموا بالانقلاب على الخيار الديمقراطي في الجزائر هم نوعين، حسب الدبلوماسي الجزائري السابق محمد العربي زيتوت، استئصاليون بالمصلحة وهم الجنرالات الذين يريدون الحفاظ على الامتيازات، وحماية مصالحهم ونفوذهم، وبالتالي الحفاظ على السلطة بأي ثمن، حتى ولو أدى ذلك إلى مقتل ربع مليون جزائري، وهو ما وقع فعلا. ثم هناك استئصاليون بالإيديولوجيا، وهؤلاء عبارة عن فئة قليلة ونافذة، تحتل مواقع سياسية وإعلامية متقدمة، وتضم الشيوعي والاشتراكي والعلماني والليبرالي، يشتركون في عدائهم للمجتمع الجزائري، ومن تم عداؤهم للإسلاميين، وهذا التحالف غير المقدس هو الذي ذهب ضحيته محمد بوضياف الرئيس الجزائري الذي جيء بعد الانقلاب إلى السلطة، كما أنه المسؤول عن مقتل عبد القادر حشاني القيادي في جبهة الإنقاذ الإسلامية. وبسببه أيضا (التحالف) استمر فتيل الحرب ولا يزال، في حرب تقدر خسائرها في الأرواح بربع مليون جزائري، وخسائرها المادية بثلاثين مليار دولار، وفوق ذلك كله غياب الاستقرار والأمن في الجزائر إلى اليوم. بل إن تلك الحرب التي أشعل فتيلها الإستئصاليون في الجيش وبتحريض من النخبة العلمانية المتطرفة، لم تتورع عن تشكيل قوات خاصة للانتقام من الشعب الجزائري، كما يحكي ذلك الضابط الجزائري حبيب سوايدية في كتابه الحرب القذرة في الجزائر، حين أكد أن ما شهدته سنوات الحرب المدنية الأولى (1995/1992) من جرائم، اقترفتها مجموعات محدودة العدد تتراوح بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف من أفراد القوات الخاصة. وخاضت هذه القوات الخاصة حربين أولاهما ضد الإرهابيين، ولم يجد سويدية غضاضة في المشاركة فيها. أما الأخرى والأهم فهي الحرب القذرة في حق المدنيين من الجزائريين وهي التي شعر سويدية اتجاهها بالمقت الشديد وشجبها بقوة، ثم هرب من الجزائر طالبا اللجوء السياسي في دول أوربا. الأفظع من ذلك في التجربة الجزائرية أن النتائج كانت مدمرة وقاسية، ليس على الجزائر وحدها، بل في المنطقة المغاربية ككل، فذلك الانقلاب ضد الخيار الديمقراطي للشعب الجزائري هو الذي دفع فئات واسعة إلى تبنى خيار العنف ضد الدولة الجزائرية، ومن تم ظهور مجموعات مسلحة، بدءا من الجيش الإسلامي للإنقاذ، إلى الجماعة السلفية للدعوة والقتال، التي تحالفت فيما بعد مع تنظيم القاعدة، وأعلنت عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. إن التجربة الجزائرية تؤكد بالملموس أن الانقلاب على خيار الديمقراطية والاعتدال، يؤدي بشكل مباشر، بل هو خدمة مجانية لتيار الغلو والتطرف، الذي لم يقف عند الحدود الجزائر، بل أصبح يهدد الاستقرار والأمن في منطقة المغرب العربي والصحراء الكبرى.