ربما سيكون لنداء الدفاع عن الحريات الفردية دور في استعادة النقاش حول الهوية الإسلامية للمغرب في علاقتها بتحولات العولمة، وقد لا يكون هذا الهدف محط اتفاق بين عموم الموقعين، لكن مسار تطور السجال في هذا الموضوع دفع إلى فرز عدد من القضايا، كالعلاقة بين الحياة الخاصة وحرمة الفضاء العمومي ومفهوم الحرية، ومدى حاكمية وسيادة ما يسمى بالمرجعية الدولية على القوانين والسياسات الوطنية، وشرعية الاحتجاج على ما يعد انتهاكا للقيم الإسلامية ومقارنته بالاحتجاجات التي تنظم على الأوضاع الاجتماعية، وهي قضايا تتعدد فيها وجهات النظر وتتباين، إلا أن الفاصل الرئيسي هو قوة الأدلة التي يحشدها صاحب كل رأي في الدفاع عن أطروحته. وسنقف في هذه المقالة المركزة على ما أفرزه النقاش من جدل حول العلاقة بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الدولية، وينطلق هذا الجدل من افتراض تفوق المرجعية الدولية على المرجعية الإسلامية، وأن طريق التقدم رهين بطلاق تدريجي مع هذه الأخيرة، حتى لا تصدم الشرائح العريضة والمسلمة في المجتمعات، والواقع أن الافتراض خاطئ من أساسه، خاصة وهو يعتمد في إسناد مقولته تلك باعتبار أن الدفاع عن الهوية الإسلامية للمغرب يتم من خلال مبدأ الخصوصية، مستلهما في ذلك مقولات بعض الإسلاميين والتي تعززت بأطروحات الفرنكفونيين والقائلة بمبدأ الاستثناء الثقافي والذي رفعه الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا متيران في التسعينيات وذلك مع انطلاق مفاوضات المنظمة العالمية للتجارة، والواقع أن التصور الإسلامي بطبيعته تصور عالمي جاء للبشرية ولا يمكنه أن يحتمي بشعار الخصوصية لضمان استمراريته، بل على العكس من ذلك فإن الخصوصية هي شعار العاجز المحافظ، غير القادر على التجديد. إلا أن أهم ما جاء به هذا الجدل هو سيل من الترهات التي تصاغ في قالب من الكتابة الكثيفة الإحالات المرجعية، لكن بمنهجية انتقائية وضيقة ومتحيزة، ففي إحدى المقالات الأخيرة بمجلة نيشان في عددها الأخير، نجدها تقدم حق الحرية في مقابل الاسترقاق كمجال للتعارض بين المرجعية الدولية والمرجعية الإسلامية، وبدعوى أن الإسلام لم يحرم العبودية، أصبح ذلك دليلا لكشف التعارض، في حين أن التعارض يستلزم إبراز دعوة الإسلام للعبودية ودفاعه عنها وتبريره لها وتحريضه الناس على إتيانها، وهذا شيء غاب كلية عن صاحب المقال، والسبب أنه غير موجود، بل العكس هو الموجود والمعروف عن الإسلام. وفي الوقت الذي اجتهد كاتب المقال في حشد كل شيء له علاقة بقضية الاسترقاق وأحكامها رغم غرابتها لم يذكر أي شيء حول توجه الإسلام للحد من الاسترقاق وجعله أحد مداخل التكفير عن الذنوب وترغيبه فيه باعتباره من الأعمال الصالحة، حتى كان ذلك من الأمور التي استقطبت تقدير الكثير من المستشرقين مسجلين تقدم المنهج الإسلامي في تخليص المجتمعات الإسلامية من ظاهرة الرقيق بقرون طويلة على المجتمعات الغربية، إلا أن بعض المقتنعين بتفوق المرجعية الدولية وجدوا أنفسهم في حمأة الدفاع عن هذا التصور منزلقين في تكرار نماذج التعاطي الانتقائي والفج الذي يحرص على استدعاء كل ما يعتبره نقيصة وتجاهل كل شيء إيجابي في التعاطي معها، وهو ما تجلى في كيفية التعاطي مع قضية الرق وبالتالي يطعن في مصداقية ما نشر بشكل كبير. إلا أن ما يعد حقيقة ترهة من الترهات الكبيرة هي عدم التردد في استدعاء أشد التفسيرات ضيقا وإلصاقها بالإسلام كالقول بأن الإسلام حرم التصوير مصداقا للحديث الذي جاء فيه كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها تنفس فتعذبه في جهنم، وهذا حقيقة كاف لاعتبار النقاش مفتقد للشروط العلمية، حيث لا يعرف موضوع النزاع والخلاف، كما يصبح الأمكر حينذاك مجرد سجالات ومزايدات لا علاقة لها بتطوير المعرفة. الواقع أن المقولات التي تعتمد في الدفاع عن التفوق المزعوم تعتمد على خطابات أنتجت بشكل انتقائي وبقرون عديدة سابقة على بروز الحديث عن المرجعية الدولية، إلا أنها في العمق تمثل نكوصا عن تحول سجل في الثمانينيات في صفوف التيارات اليسارية والعلمانية عندما لجأت إلى القرآن والسنة للدفاع عن أفكارها ومحاولة حشد الأدلة لها من داخل المرجعية الإسلامية. حقيقة إن النقاش الفعلي قد انطلق، والأمر لم يعد مرتبطا بحادث في مدينة بل يعكس تباينا في المرجعيات، وهو ما سيساعد كثيرا في حسم الكثير من القضايا.