ثمة ترابط محكم بين الوصف والتفسير والاستشراف في كل عمل علمي يستهدف التأثير على صنع القرار، فأي استشراف راجح يبقى رهين وجود تفسير مقنع، وهذا الأخير يتحقق في ظل وصف دقيق، إلا أن حال البحث العلمي الموجه لمنطقتنا العربية والإسلامية بقدر ما يتجاوز مرحلة الوصف والملاحظة بنجاح بقدر ما يتعثر في بلوغ مرحلة الاستشراف والتوقع، وهذا في العمق يعود لعطب مستحكم في مرحلة التفسير والتحليل. الباعث على بسط هذه الخلاصة ، هي اليوم الدراسي الأخير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، فهذا الأخير تعود أن يخصص لكل منطقة من مناطق العالم العربي برنامج لقاءات دراسية تحت مسمى المائدة الشهرية، وانطلق مشروعه في موسم 50026002 بمائدة المغرب قاصدا بذلك مجموع منطقة شمال إفريقيا واتجه في موسم 70028002 إلى تخصيص هذه المائدة لموضوع الخليج، على أساس أن يخصص اللقاء الشهري لموضوع محدد يبدأ بالقضايا السياسية الضاغطة وينتهي بالقضايا الكامنة لكن المؤثرة في المستقبل الاستراتيجي لتلك المنطقة. إلا أنه واستثناءا عن الاشتغال في المجال الخليجي خصص يوما دراسيا كاملا لموضوع التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية لشمال إفريقيا هذا الشهر وذلك تحت عنوان بناء الاستقرار في شمال إفريقيا: الآفاق والتحديات، واستقطب إليه نخبة من دارسي وصانعي القرار الأمريكي تجاه المنطقة، ولم يكن ذلك عبثا، فما شهدته السنة الماضية من أحداث توشك بأن تكون لها آثار عميقة على التوازنات الاستراتيجية، مما أعطى للقاء أهمية مزجت بين الوظيفية التعليمية لمنطقة وصفها مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز جون أولترمان بالمجهولة بالنسبة للعديد من الفاعلين وذلك في كلته التقديمية. مما أثارني في المداخلات التي قدمت هي حرص عدد منها على تقديم أكبر قدر ممكن من التفاصيل والمستجدات للتطورات الجارية في المنطقة، لكن في قوالب تحليلية متقادمة مع تفاوت بين المقتربات الأمنية والمقتربات السياسية، مما أضعف القدرة الاستشرافية لما قدم من دراسات، والمثال المقدم هنا هو التحليل الذي تم لنتائج الانتخابات التشريعية التي عرفها المغرب في شتنبر الماضي. ففي خلاصة القراءة والتي توزعت بين مداخلتين الأولى لجون إنتلس مدير برنامج الشرق الأوسط بجامعة فوردام ومليكة الزغل الباحثة في جامعة شيكاغو، نجد أن مستقبل الديموقراطية في المغرب مستقبل يكتنفه غموض شديد، تنتهي معه مقولة الواحة الديموقراطية التي تم الاجتهاد في بنائها طيلة سنوات وجرى التسويق لها بمشاريع جذابة من حيث العناوين، كالإنصاف والمصالحة وحقوق المرأة وإصلاح الحقل الديني والاعتراف بالأمازيغية وصولا إلى المشاركة السياسية لجزء من الحركة الإسلامية، ومن ناحية أخرى فالرهان على حزب العدالة والتنمية للقيام بدور في دفع عجلة الانتقال الديموقراطي رهان مشكوك فيه وتعزز بهذه الانتخابات مع التأكيد على مقولتين، الأولى هي أن عملية احتوائه من قبل النظام أدت إلى إضعاف شرعيته، والثانية هي أن عدم حيازته للموقع الأول واكتساحه للنتائج لا يعني أن الموضوع الإسلامي قد انتهى، وهو ما أبرزته ملاحظة لمتدخلة من معهد راند في جلسة خصصت لملف الإرهاب ضمن نفس اللقاء الدراسي، عندما أبرزت كون الجيل الحالي في تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي يختلف عن الجيل الذي عرف عند تنظيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال، حيث يغلب عليه الطابع الشبابي مما يدل على وجود قوة تعبوية واستقطابية لا يمكن تجاهلها وتقدم مؤشرا عن حجم التحولات الجارية في المنطقة. الواقع أني لم أجد فرقا كبيرا بين مداخلتي إنتلس ومليكة في هذا اللقاء وبين مداخلة كل واحد منها ضمن لقاءات نفس المركز وفي إطار مائدة المغرب الشهرية، وخاصة بالنسبة للباحثة التونسية مليكة الزغل في نونبر 2005 وكان الموضوع هو الإسلاميون والديموقراطية، ثم للباحث الأمريكي جون إنتلسن في دجنبر من نفس السنة أيضا وذلك في محور الديموقراطية والمجتمع المدني، فرغم مرور أزيد من سنتين لم يتقدم كل منهما بشكل كبير نحو فهم تعقيدات الوضع السياسي بالمغرب مع النزوع نحو اعتماد المقولات التحليلية السهلة، والتي تعفي من رؤية المخاض العميق الجاري في المنطقة، وتدفع في المحصلة إلى الاستسلام لما هو قائم وعدم الانتباه للفروقات الدقيقة بين أوضاع بلدان المنطقة، والتي يكون من المستحيل معها وضع تونس في نفس خانة الجزائر فضلا عن المغرب، وأعتقد هنا أن العطب كما أشرت في مقدمة المقال يعود للإطار التفسيري والذي رغم أخذه بعين الاعتبار للجدل العميق بين السياسي والديني في رسم توازنات المنطقة إلا أنه لم يستطع بعد توظيفه لاستشراف مستقبلها، والمثال البارز هنا من خلال هذا اللقاء الأخير هي أن القول باحتواء حزب العدالة والتنمية واعتماد ذلك لتفسير نتائجه لا يصمد أمام تطورات الأحداث والتي ظهر فيها توجه رسمي حثيث لتحجيم الحزب حتى لا يحقق المرتبة الأولى، أما الاحتواء فهو يفضي إلى توقع إدماجه في البنية الحكومية وليس السعي للحيلولة دون مشاركته في العمل الحكومي، وهذا مثال واحد لإبراز أن المقدمات التحليلية لا علاقة لها بالتوقعات.