تركت خلفها تاريخا من الذكريات، وحاولت نسيانه بكل ما تملك من قوة. لم تفكر في تلك السنوات الطوال التي ضاعت هباء منثورا، عفوا، فكرت لكنها قررت أن لا تتقيد بها، وأن تجمع ما بقي لها من أيام لتنفقها في أشياء مفيدة، أشياء لطالما حلمت أن يذكرها الناس بها. خمسون سنة مضت ولن تعد. مضت في حزن عميق لم يفارقها منذ الطفولة، منذ أن فتحت عينيها على اليتم وتجرعت مرارته، ومنذ أن عاشت في حضن قسوة زوجة الأب التي مارست عليها كل أنواع التعذيب، ومنذ أن حرمت من إكمال دراستها وزوجت في سن لم تكن تعلم فيه معنى الزواج بعد. منذ اللحظة التي شعرت فيها بألم الولادة وفرحة الشعور بالأمومة، ومنذ أن بدأت تتحمل هموم المصاريف وتعمل خادمة في البيوت من أجل أن توفر لأبنائها ما يحتاجونه لإكمال دراستهم. كانت لحظات فرحها قليلة خلال تلك السنوات، ولم يكن يشغل بالها سوى كثرة الهموم والخوف من المجهول، خاصة بعد أن توفي الزوج الذي كان سندها الوحيد في الدرب، رغم قسوته، ورغم كل الآلام التي عاشتها معه، إلا أنه كان دائما ظهرها القوي الذي يحمل عنها الكثير من الأعباء. وأكثر ما يحز في نفسها أن شجرتها لم تعط ثمارا طيبة، وما إن تقوت ونضجت حتى بدأت تتنكر لأصلها. إذ رحل الجميع إلى حال سبيلهم وتركوها تتجرع مرارة الوحدة القاتلة. تمضي أياما وشهورا وحيدة ثم تحمل بعضا من أغراضها وتتوجه صوب الإبنة الكبرى لتنعم قليلا بدفء الأحفاد، وقد يقودها الحنين لإكمال الزيارة لباقي أبنائها الأربعة، وترجع منكسرة من حدة الجفاء الذي تشعره في أعينهم، غير أن لسان حالها لا يكف عن كلمة: الله يهديهم ويرضي عليهم. تعود من جديد بين تلك الجدران التي بقيت رفيقتها الوحيدة في الدرب، تغرق في بحر ذكرياتها كالعادة، إلا أنها كرهت العيش في تلك الحالة، وقررت أن تمنح نفسها الشعور بالسعادة، فأسرعت إلى أقرب دار لليتامى، وطلبت أن تعمل مربية للأطفال، وتمنح هؤلاء الصغار الكثير من الحب الذي ما يزال يتدفق من قلبها، وتنعم هي أيضا بحب أبناء يعوضونها عن حب أبنائها الذين شغلتهم عنها ظروف الحياة. وها هي ذي اليوم قد اسفاقت في الصباح الباكر على نشاط غير معهود، وفرحة نابعة من أعماقها، لأنها قررت أن تبدأ حياتها الجديدة وأن لا تبكي على أطلال الماضي، قررت أن تقوم بعمل يعني لها الشيء الكثير، يعني لها الحياة من جديد، ويعني لها أملا في حياة سعيدة فقدتها طيلة السنوات الماضية.