المتأمل في بناء المجتمع الإسلامي الأول الذي أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم، يلاحظ أن ترسيخ خلق الإيثار في العلاقة بين المسلمين كان إحدى الركائز الكبرى التي قام عليها ذلك المجتمع. فقد كان من مقتضيات الأخوة بين الأنصار الذين آووا ونصروا، والمهاجرين الذين خرجوا إلى المدينة تاركين أموالهم يبشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله أن الأنصاري كان يقول للمهاجري هذا مالي قد شطرته شطرين، فخذ شطره واترك شطره الآخر، وبلغ الأمر ببعضهم أن عرض أن يطلق إحدى زوجاته كي يتزوجها أخوه المهاجري، ولذلك ورد الثناء عليهم في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9) . وفي مقابل هذا الخلق العظيم أي خلق الإيثار، الذي ضرب فيه الأنصار أمثلة رفيعة، أبان المهاجرون عن خلق رفيع في التعفف، كما وصفهم القرآن الكريم في قوله تعالى:(لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) وهكذا قام المجتمع الإسلامي الأول وظل القرآن يتعهده ويحذره من السقوط في مواجهة فتنة الدنيا وإغراءاتها وشهواتها فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن أخطر ما يخشاه على أمته هو التنافس على متاع الدنيا ويقول: "والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم». وكان القرآن يسارع إلى تنبيه الصحابة، بمجرد أن يظهر فيهم ميل، إلى الدنيا، أو تنافس عليها، كما ورد في قوله تعالى:(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) وكان هذا بمجرد أن استقر المهاجرون بالمدينة وبدا عليهم ما بدا من تحسن وتغير في أحوالهم بعد هجرتهم تاركين أموالهم ودنياهم في مكة. وسار المسلمون على هذا النهج.. فكان مجتمعهم في عهد الخليفة عهد إيثار لا أثرة. ثم جاء عهد الخليفة عمر فسار على هذا النهج في سيرته الخاصة لكنه أقام ميزان العدل في المجتمع، ولم يركز فقط على أخلاق الأفراد وتربيتهم بل أقام فيهم شريعة الله وانتصر للمظلوم من الظالم، كما فعل مع القبطي الذي جاء يشتكي من أحد أبناء عمرو بن العاص، الذي اعتدى عليه حينما سابقه مسبقه. ولما انصرف عهد الراشدين، وعهد الخلافة الراشدة وصار الحكم يغلب عليه بالسيف لا بثمرة الفؤاد، انقلبت المعادلة وغلبت الأثرة الإيثار. وقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم لهذا التحول الذي عرفه المجتمع الإسلامي، أي التحول من مجتمع الإيثار إلى مجتمع الأثرة، من مجتمع القيام بالواجبات وأداء الحقوق إلى مجتمعات يطالب فيها الناس بالقيام بواجباتهم دون التوفية بحقوقهم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن لا يكون ذلك التغير مدعاة للتفريط في القيام بالواجبات، أو التخلق بأخلاق الولغين في الدنيا على حساب المال العام وعلى حساب أداء الحقوق، وهو ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها»، فتساءل الصحابة عما ينبغي أن يكون عليه عمل المسلمين آنذاك فقال صلى الله عليه وسلم «تؤدون الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم». ولذلك فلا مجال لإصلاح مجتمع الأثرة إلا بأن تبقى هناك طائفة ثابتة على الحق تعطي القدوة من نفسها وتذكر بالمثال الأول الذي كان عليه الجيل الأول الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، في انتظار إقامة مجتمع العدل والرقي إلى مستوى مجتمع الإيثار، وذلك المدخل الأساس لما يسمى اليوم ب تخليق الحياة العامة. محمد يتيم