أتساءل عما يسمى الآن ب تلفزيون الواقع: هل هو حقا تلفزيون الواقع؟ أم هو بالضبط وسيلة لنسيان وتجاهل الواقع المعيش بكل إشكالاته وشروطه ومآسيه؟ هل يشكل تهديدا قيميا وأخلاقيا على مجتمعاتنا ينبغي العمل على نقده؟ أم هو مجرد فقاعة لا مستقبل لها وتقليعة من تقليعات ثقافة العصر الخاوية التي ما إن تظهر حتى تكتسح كل شيء ثم تعود فتذبل بسرعة وتموت؟ أسئلة كثيرة تطرح في شأن ما يسمى بتلفزيون الواقع. وقبل الإجابة عليها لنبتدئ أولا باستحضار صيرورة تطور هذه الظاهرة الإعلامية الجديدة. غالبا ما يقال إن البداية الأولى كانت مع قناة فيرونيكا في هولندا سنة ،1999 لكن الصواب هو أن هذا الأسلوب التلفزيوني الجديد يعود إلى ما قبل التجربة الهولندية، ففي سنة 1992 خرجت قناة تلفزية أمريكية تدعى إم تي في بتقليعة جديدة، حيث جمعت مجموعة من طلبة الجامعة وأدخلتهم في شقة مجهزة بكاميرات متعددة، وتم تصوير حياتهم اليومية وعرضت ضمن برنامج بعنوان العالم الحقيقي. لكن لم يكن لهذه التقليعة انتشار وجاذبية مثل ما حصل لقناة فيرونيكا، التي قدمت برنامجها لوفت ستوري ثم أتبعته ببرنامج بيج برادر الأمر الذي جعل ريادة ما يسمى ب تلفزيون الواقع يرتبط بتجربة هذه القناة تحديدا. وكانت فكرة البرنامجين بسيطة للغاية وهي حبس مجموعة أفراد في مكان محاصر من كل جهة وصوب بعشرات الكاميرات تحصي على المشاركين أدق الحركات والأنفاس!!! لكن حصل ما لم يتوقعه حتى منتجو البرنامجين إذ حقق بيج برادر درجة مشاهدة لم يتوقعها منتجوه ولم تخطر على بالهم حتى في الأحلام، حيث بلغ عدد المشاهدين 300 مليون مشاهد من مختلف أنحاء العالم تسمروا أمام جهاز التلفاز لمتابعة برنامج ليس له أي معنى. ولفت الأمر القنوات الأخرى فانتشرت موضة البيج البرادر انتشارا واسعا، وأصبحت أي قناة تقدم على سجن حفنة من الأفراد في مكان ما وإحاطتهم بالكاميرات إلا وتنجح في استقطاب الجمهور، حيث يتسمر المشاهدون ليتابعوا أدق تفاصيل يومياتهم التافهة، بل حتى لو ركزت الكاميرا على غرفة أو ممر فارغ، تجد المشاهد فاتحا عينيه وفاغرا فاه ناظرا يترقب أن يدخل مشارك أو مجرد أن يمر في الممر. ظاهرة غريبة استرعت انتباه الجميع، ونجاح استغرب له حتى المتخصصون في دراسة وتقييم وإنتاج البرامج التلفزيونية، ومن هؤلاء آندريا يونغ كبير نواب رئيس قسم البرامج الخاصة والبديلة في شبكة أيه بي سي ء حيث نجدها تقول باستغراب: أعتقد أن ثمة إقبالا كبيرا على هذا النوع من البرامج. لا أستطيع تفسيره. وبالطبع كان أول من استرعت تجربة تلفزيون الواقع انتباهه هي الشركات والمؤسسات الاقتصادية، حيث أصبحت تلهث لتحجز ثواني في الفواصل الإعلانية للبرنامج الذي أصبح محكوما عليه بالنجاح مسبقا قبل ابتداء بثه. ومنذ نجاح تجربة قناة فيرونيكا، انتشرت الطبعة الرديئة من برنامج (بيج برادر) في خمس عشرة دولة أوروبية مباشرة بعد عرضه في هولندا، وأصبح المنتجون ينوعون في أشكال البرنامج، وكان من ضمن هذه التنويعات الغريبة أن إحدى القنوات أخذت 61 متسابقا وحبستهم في جزيرة معزولة وتركتهم أمام امتحان البقاء، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يأكل دود الأرض ليستمر في الحياة ونجح البرنامج أيضا حيث تابعه أزيد من 05 مليون مشاهد. وفي بريطانيا تم تجميع عدد من الأفراد أمام اختبار البقاء من دون نوم طيلة أسبوع. ونجح البرنامج أيضا. بل حيثما ظهر البرنامج إلا وحقق نسبة مشاهدة عالية، سواء في أوروبا أو أمريكا، سواء في المكسيك أو في نيجيريا، كان برنامج تلفزيون الواقع يكتسح رغم تفاهته وعبثيته كل شيء. ألسنا في زمن عبثي؟! حتى النسخة العربية للبرنامج حققت نجاحها المادي، إذ بلغ عدد المتصلين بالهاتف في برنامج ستار أكاديمي الذي أذاعته قناة ج 70 مليون متصل. وهو رقم يستحيل أن يحصل عليه أي برنامج تصويت، حتى لو كان موضوعه القضية الفلسطينية. بل منذ عام 2000 أصبح تلفزيون الواقع في الولاياتالمتحدةالأمريكية قاعدة الارتكاز الأساسية للتلفزيون الأمريكي من جهة المردودية المالية، حيث حققت النسخ المتشابهة من هذا البرنامج أرباحا خيالية. وكذلك الحال في الدول الأوروبية. فلو راجعنا الحساب السنوي لقناة 1ئش الفرنسية سنلاحظ أن رقم تعاملها المالي لسنة 2003 بلغ 2‚347 مليار أورو، وتعد حصة برنامج +تلفزيون الواقع؛ من هذا المبلغ الضخم نسبة 43 في المائة حققتها القناة بعائدات الإعلان، وأرباح الهواتف التي أقدم عليها المشاهدون، وبيع الإسطوانات المستخرجة من البرنامج وغيرها. ومما يجدر ذكره أن التقليعة التي ظهر بها البرنامج في أمريكا كانت بحق لائقة بثقافة العم سام! إذ تحول ما يسمى ب تلفزيون الواقع إلى ما سمي ب تلفزيون المزبلة حيث عرضت صور حية ومباشرة لأفراد في وضعيات وسلوكات لاأخلاقية! وفي المنحدر القيمي نفسه قدم تلفزيون سويدي نسخة جديدة من تلفزيون الواقع تحت عنوان دعونا نكن كلابا. وفي ظل زحمة برامج تلفزيون الواقع، واعتمادها من قبل مختلف القنوات التلفزية، وبما أن هذه البرامج متشابهة تماما كالقطط السوداء في الليل، وفي سياق التنافس على اجتذاب أكبر عدد من المشاهدين، لجأت بعض القنوات إلى خداع مشاهديها، فبدل أن يكون البرنامج كما هو متفق، أي كاميرات ترصد ما يحصل من قبل المشاركين الذين يتصرفون بتلقائية وعفوية، ذهبت بعض القنوات إلى حد وضع سيناريو كامل تم تدريب المشاركين وإلزامهم بأدائه، بمعنى أنهم كانوا مجرد ممثلين مقابل أجر. وهكذا كانت تبتدع أوضاعا ومواقف وحوادث ومشاجرات طريفة في كل يوم، ويحسب المشاهدون أنها حوادث حاصلة بالفعل، ويتنافسون على إضاعة أموالهم في الهواتف من أجل التدخل لنصرة هذا المشارك على ذاك أو ترطيب خاطره، وينقسم الجمهور، وتتشكل فرق، ويشتد الوطيس فيخسرون.. وتربح القناة! ومن بين ما تكشف من فضائح اللعب على المشاهد وخداعه، فضيحة قناة إم سيس؛6M في برنامجها الشهير لوفت الذي كان مجرد تمثيل في تمثيل. وعود إلى مفهوم تلفزيون الواقع، إن السؤال الذي يطرح هو هل بالفعل يستحضر هذا النوع من البرامج الواقع أم العكس؟ لا شك أن هذا النمط من البرامج لا يعكس واقعا ولا يقدم أي رؤية له. وإلا يحق لنا أن نتساءل أي تلفزيون واقع هذا الذي قدمه برنامج فيير فاكتور الذي دفع المشاركين إلى الغطس في حوض مملوء بالدم، وتقبيل الجرذان. وأي واقع يتم عرضه في برنامج البجعة الذي تم فيه اختيار نساء قبيحات جدا، وعرضهن على الشاشة، ثم إخضاعهن لعمليات تجميل، وبعدها يوضعن أمام المشاهد ليصوت على الأجمل من بينهن. بل ما هو الواقع التي يتم عرضه حقا في مختلف نسخ برامج تلفزيون الواقع؟ أي واقع في مشاهدة مجموعة من الشباب محبوسين بين أربعة جدران يقومون بحركات وممارسات وأحاديث تافهة جدا؟ ليس هذا تلفزيون الواقع، بل هو بالأساس مخدر لتلهية المشاهد، بل أفسر شخصيا نجاح برنامج ستار أكاديمي الذي قدمته قناة ج بثقل الواقع وضغطه، حيث يجد المشاهد في ستار أكاديمي ما يسمح له بنسيان الواقع وعدم التفكير فيه أصلا. أي بالضبط هو تلفزيون اللاواقع. كما أنه من حيث القيم لا يتناسب مع ثقافتنا واحتياجاتنا، فنحن في أمس الحاجة إلى النهوض بوعي شبابنا ومستواهم الخلقي والعلمي، نحن محتاجون إلى شباب واع مثقف يعمل على خدمة وطنه وأمته، وليس شبابا يجتهد في نكش شعره وتقطيع سراويله على نحو يصنع له اللوك القادر على إثارة الاستغراب وجذب الاهتمام. أليس من الأولى أن نفكر في برنامج علوم أكاديمي، أوثقافة أكاديمي، بدل ستار أكاديمي؟