من خلال جملة التنازلات التي قدمتها طهران بشأن ملفها النووي، والتي قدمت لأغراض الدبلوماسية من خلال الأوروبيين، يمكن القول إن القيادة الإيرانية قد اختارت الانحناء للعاصفة الأمريكية التي تتحرك بقوة دفع صهيونية محمومة لا ترى خطراً عليها أكبر من القنبلة النووية الإيرانية الموعودة. لم يكن القرار سهلاً على الإيرانيين؛ إصلاحيين ومحافظين، فأن تغدو إيران قوة نووية، فإن معنى ذلك أنها تكرست كقوة إقليمية معتبرة، ليس في الخليج والشرق الأوسط، وإنما من حيث فرص الامتداد في آسيا الوسطى أيضاً، لكن تقدير حيثيات اللعبة قد دفع نحو قرار حاز على الإجماع كما يبدو، بدليل أن أحداً لم يزايد على أحد فيه، فيما حرص خاتمي على القول إنه قرار مجمع عليه من قبل أركان النظام جميعاً، الأمر الذي لم ينفه الآخرون. ولعل ما زاد في صعوبة القرار هو أن اللقمة كانت قد اقتربت من الفم كما يقول المثل المعروف، إذ أن إيران كانت على وشك إتمام دائرة الوقود النووي الذي يجعل إنتاج القنبلة النووية مسألة وقت ليس إلا، وحين تتوفر الصواريخ بعيدة المدى القادرة على حمل الرؤوس النووية، فإن القدرات العسكرية النووية قد غدت في واقع الحال جاهزة وفاعلة. والحال أن قراءة موضوعية لا بد أن تدفع نحو الاعتراف بالذكاء الإيراني في إدارة اللعبة، سيما بعد إعادة انتخاب جورج بوش لولاية جديدة، ومعه فريقه المتطرف الذي كان ولا زال يسن أسنانه لمواجهة الخطر الإيراني، تحركه في ذلك الهواجس الإسرائيلية. ليس الملف النووي هو الوحيد الذي يثير الدولة العبرية في السلوك الإيراني، وإن بدا أنه الأكثر أهمية، فهناك إلى جانبه ملف حزب الله والتدخلات الإيرانية الشرق أوسطية عموماً. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن المشروع الإسلامي الإيراني برمته هو المستهدف، لكن الأهم في هذه المرحلة هو الحيلولة دون أن تقطف إيران ثمار الورطة الأمريكية في العراق، سيما في ظل ما يقال عن الغالبية الشيعية. وقد كان مثيراً أن يتحدث إياد علاوي نفسه عن تزوير الإيرانيين لملايين البطاقات التموينية التي سيتم على أساسها الاقتراع في الانتخابات العراقية، وهو ما يفسر أيضاً حرص الرئيس الإيراني خاتمي على دعم مطلب الشيعة بإجراء الانتخابات في موعدها في ظل دعوات أطراف أخرى إلى تأجيلها مدة ستة شهور. وإذا كانت المسألة العراقية هي التي تهم واشنطن في السلوك الإيراني إلى جانب الملف النووي، فإن ذلك هو ذاته ما دفع طهران نحو خيار التهدئة والتنازل على رغم صعوبته البالغة كما سبق وأشرنا. وهنا يمكن القول إن عين طهران كانت ولا تزال مصوبة على إمكانات الفشل الأمريكي في العراق، سيما وهي التي تحصد ثمار المقاومة والسياسة في آن، أقله من وجهة نظرها حتى الآن. ففي حين ترى إيران أن المقاومة "السنية" هي التي تدفع واشنطن نحو احتضان الشيعة من جماعتها، فإن سيرهم في ركاب الاحتلال مع التوجه نحو الانتخابات هو الذي سيؤكد غالبيتهم، وليبدأوا بعد ذلك العمل على إخراج الأمريكان، أكان بالطرق السياسية أم سواها. ليس من السهل القول إن الأمور ستسير بهذه السهولة، لكن الثابت هو أن الأمريكان في ورطة، ومن الصعب عليهم أن يفكروا في الاقتراب من إيران قبل تسويتها، مع أ، أحداً لن يكون بوسعه التأكد من المدى الذي يمكن أن تبلغه الرعونة الأمريكية. وإلى أن يتأكد الفشل أو تحدث المفاجأة الأخرى فإن التهدئة والتراجع وعدم استفزاز اليمين الأمريكي المتطرف تظل الخيار الأسلم، وهو ما اقتنع به الإيرانيون، في لحظة توافق نادرة بين إصلاحييهم ومحافظيهم. ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني