ذكر السقطي رحمه الله أنه اشترى جارية بعشرة دنانير، من سوق النخاسين، وحين ذهب بها إلى البيت، عرض عليها الطعام، وكان الوقت نهاراً، فقالت له: والله، يا سيدي، ما رأيت أحداً في دارنا أكل نهاراً قط. قال: فتركتها، فلما كان العشاء، جئتها بطعام، فأكلت منه قليلاً.. ثم قالت: يا مولاي بقيت لك خدمة؟ قال لها: لا، فقالت: دعني لخدمة مولاي الأكبر.. قلت: إي وكرامة.. فانصرفت إلى بيت تصلي فيه.. وأنا صليت العشاء الآخرة، ورقدت... فلما مضى من الليل الثلث ضربت الباب علي، فقلت لها: ماذا تريدين؟ قالت: يا مولاي، أما لك حظ من الليل؟! قلت: لا، فمضت. فلما انتصف الليل، ضربت علي الباب، وقالت: يا مولاي، قام المتهجدون إلى وردهم.. فقلت لها: يا جارية، أنا بالليل خشبة، وبالنهار جلبة. (أي، لا تتعبي نفسك، فأنا متحرك بالنهار، ساكن بالليل سكون الخشبة، كما هي حال الكثيرين منا في هذه الأيام، نملأ النهار حركة وجلبة، ونركن إلى فراشنا متعبين، لا نقوى على تهجد أو قيام). ولما كان الثلث الأخير من الليل، ضربت الباب ضرباً عنيفاً..( فهي لا تقوى على رؤية مسلم ينام وقت المناجاة، فضربت الباب بعنف، حتى توقظ وجدانه، وتحرك إيمانه، وتبعث شيئاً من أشواقه).. وقالت: أما دعاك الشوق إلى مناجاة الملك، قم لنفسك وخذ مكاناً فقد سبقك الخدام.. نعم، قم لنفسك، وخذ مكاناً.. فبهذا القيام تستقيم أعمالك، وتعلو همتك، وتزكو نفسك، ويطمئن قلبك، ويهدأ بالك، وتعلو صفاتك، وترتقي حياتك، وتسمو أهدافك، وتنشط في العبادة والطاعة جوارحك، وتسبح في الآفاق الربانية روحك. أما دعاك الشوق لمناجاة الملك؟ نداء غاب عنا، أو غبنا عنه، ابتعدنا عنه، أو لعله ابتعد عنا، لكثرة أخطائنا، لكثرة تفريطنا وتقصيرنا، حرمنا الشوق، فالشوق نعمة مزجاة، ومكانة مهداة، وشرف وتشريف، وتكريم وتعريف، أن يكون شوقنا شوق أرواح، لا شوق أبدان.. شوق إيمان وقرب، لا شوق أهواء وشهوات.. فهلا استيقظ النداء في القلوب، حتى تسبح الروح في فضاء القرب، وتسجد في مقام الأنس؟. أما دعاك الشوق لمناجاة الملك؟. فعلامة دعوتك قيامك لنفسك قيام آخرة، قيام طاعة وعبادة، قيام مناجاة ودعاء، قيام ركوع وسجود.. فمن اتقدت شعلة الشوق في ذاته، احترقت بنيرانها الأهواء والشهوات، وتبددت بنورها كل الظلمات. فقم لنفسك وخذ مكاناً.. فالمكان الحقيقي هناك، وليس هنا، والقيام من أجل هناك، وليس من أجل هنا.. فهنا ليس بالمكان الذي تستهلك فيه الطاقات، وتبذل فيه الجهود والأوقات.. فقم لنفسك، وخذ مكاناً يليق بها.. فقد طال بك القيام لنفسك، بطلب الدنيا، والجري وراء متاعها الزائل، وملذاتها الفانية.. فهلا استدركت ما بقي، فقد بقي القليل، والقليل جداً، فهلا جعلته قياماً لنفسك، حتى تحجز في الجنة مكاناً، وفي الفردوس الأعلى جواراً؟. ما أجمل ما نطقت به هذه الجارية!. إنه كلام العارفين الذين ساروا فوصلوا، وطلبوا فأعطوا، وسألوا فأجيبوا، وقرعوا الباب، ففتح لهم فدخلوا، فأحلوا نفوسهم وأهلهم دار الأبرار، وفازوا بالقرب منه والجوار.. إنه كلام قلوب، فيه نفحة روح، تحيا به النفوس، وتتحرك به الأشواق، فتخضر به صحراء القلوب، وتنهمر به سماء العيون، فما كان من السقطي، الذي كان في النهار جلبة، وفي الليل خشبة، كما وصف نفسه، ما كان منه بعد هذا البيان البليغ، والكلام الشديد، الذي يحمل حرقة السائرين، وبلاغة المخبتين، إلا أن قام، ونفض عنه غبار الغفلة، وهيج فيه خاطراً، فأسبغ الوضوء، وركع ركعات، ما ترك بعدها هذه الركعات، فقد ذاق طعم المناجاة، ولذة القرب، فقال:.. ثم تحسست مكانها، فوجدتها ساجدة وهي تقول: بحبك لي إلا غفرت لي. فقلت لها: يا جارية، ومن أين علمت أنه يحبك؟ قالت: لولا محبته ما أنامك وأقامني. فقلت لها: اذهبي، فأنت حرة لوجه الله العظيم.