يجد المتتبع للحركة الأمازيغية ولمطالبها نفسه على أرضية ملغومة تقتضي منه السير على حذر، والتحفظ في التصنيف وإطلاق الأحكام، أو التبني غير المشروط لمطالبها والانسياق وراء حججها، وذلك لسبب بسيط هو أن هذه الحركة طيف يمتد من المطالب الثقافية واللغوية التي ليس عليها غبار وإن كان يمكن الاختلاف في الحيثيات والحجج التي تم تأسيسها عليها إلى الدعوات الشوفينية المعادية للعقيدة الإسلامية واللغة العربية والمشككة في التاريخ الإسلامي والمتنكرة لقضايا الأمة مثل قضية فلسطين، والمتبنية لأطروحات الشعوب الأصلية، بما تتضمنه من نزعة انفصالية ومضمرات تجعل المتتبع يطرح ألف سؤال حول ولائها الوطني. وإذا تجاوزنا هذا التكوين الطيفي المتوج الذي يجعل مقاربة هذا الموضوع محفوفة بمخاطر الإفراط أو التفريط والتساهل أو التجني، والانغلاق على مطالب مشروعة أو الاستدراج نحو تبني أو دعم أهداف مشبوهة في نهاية الأمر، فإن البناء المعرفي الذي يؤسس عليه البعض للحركة الأمازيغية أطروحتهم كما هو الشأن عند الأستاذ أحمد عصيد، يستدعي عدة ملاحظات نوردها بسرعة: علمانية متدثرة بالمطالب الأمازيغية لا يحتاج الملاحظ إلى تحليل كبير كي يلمس عن كثب اختراق الرؤية العلمانية (اللادينية) لتحاليل بعض منظري الحركة الأمازيغية بما في ذلك بعض من يقدمون أنفسهم في ثوب الاعتدال، أي بعض رواد الحركة الثقافية. ومن المعلوم أنه قد وقع توظيف متبادل بين الحركة الأمازيغية والتيار الماركسي اللينيني، حيث ركب هذا الأخير على مطالب الحركة، كما وظفت هذه الأخيرة مقولاته وأدبياته الفكرية والفلسفية، في إطار منهج تلفيقي يجمع بين أدوات مفاهيمية ومنهجية متنافرة للتشكيك في تاريخ الإسلام عامة وفي التاريخ الاسلامي المغربي وفي اللغة العربية بدءا بالمفاهيم الاستشراقية والأدوات اللسانية، بل أيضا أدوات منهجية تراثية مثل الاستشهاد بالقرآن الكريم والسنة النبوية، حينما يخدمان أطروحة المحلل، وفي نفس الوقت مهاجمة بعض التصورات الإسلامية أحيانا أخرى تحت ذريعة مهاجمة الرؤى الأصولية أو رؤية أصحاب الإسلام السياسي، كل ذلك للدفاع عن تصور شوفيني غير تاريخي لمسألة الهوية والثقافة والمسألة اللغوية التي يدعي الانطلاق من رؤية حداثية ومن تصور حداثي لها ولمفهوم التعددية واستخدام المعطيات النظرية للعلوم الإنسانية. ومن خلال ذلك كله، نجد أنفسنا أمام خطاب معاد للإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا وللرؤية الإسلامية للتاريخ، بدعوى مهاجمة الإسلام السياسي أو الأصولية، وحتى إن تم الاعتراف بميزة أو فضل للإسلام أو للتاريخ أو للحضارة الإسلامية، فهو فضل أمازيغي ناهيك عن الحساسية المفرطة لكل ما هو عربي، سواء كان تاريخيا أو لغة أو ثقافة أو فتحا...إلخ. التناقض بين الخطاب أو الأطروحة وبين أدواتها المنهجية والحجاجية نجد عند بعض المنظرين للحركة الأمازيغية كما هو الشأن عند أحمد عصيد قطيعة بين الأطروحة والخطاب وبين الآليات والأدوات الحجاجية المستخدمة لبنائه والدفاع عنه. فنحن أمام خطاب ظاهرة الانتصار لالتعددية اللغوية والثقافية، ولكن حقيقته الترويج لنزعة شوفينية مآلها النهائي تكريس التجزئة، ونحن ظاهريا أمام خطاب حداثي، ولكنه يستخدم من أجل تكريس فكر نكوصي منغلق، ونحن أمام خطاب يشكك في الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا وحضارة، ولكنه يلجأ أحيانا وبطريقة انتقائية إاى أدوات حجاجية من القرآن والسنة حين تخدم أطروحته، ويشكك فيها أو يتهجم عليها حين لا تسعفه أو تسير في عكس مراده، ونحن أمام خطاب يستلهم بعض المناهج والمفاهيم التاريخية، ولكن من أجل الدفاع عن تصور سكوني غير تاريخي لمفهوم الهوية. ومما يؤكد هذا التناقض بين الخطاب والأدوات المستخدمة فيه، بين الأطروحة وأدواتها الحجاجية، ما نجده في تصور بعض المنظرين للحركة الأمازيغية لمفهوم الهوية. إننا على مستوى الخطاب والمنهج نحسب أنفسنا أمام خطاب حداثي يوظف معطيات الفكر الفلسفي الغربي الذي يحتل فيه مفهوم الجدل أي الحركة والتغير مكانا مركزيا في تحديد مفهوم الهوية (هيكل، ماركس)، أي الخطاب الذي يجعل الهوية مفهوما يتغير باستمرار ونتيجة عملية تركيب بين مكونات متعارضة، وهكذا دواليك... ولكننا على مستوى النتائج نجد أنفسنا في الواقع أمام تصور سكوني لمفهوم الهوية، فبعض المنظرين للحركة الأمازيغية إذ يستعيرون المنطق التاريخي، وينعون على الحركة الإسلامية كونها تتحدث عن لحظة ذهبية وتلغي التاريخ السابق على الإسلام وتعتبر الفتح كفعل تأسيسي للتاريخ...إلخ، إن هؤلاء المنظرين المتعصبين لالهوية الأمازيغية لغة وثقافة وتاريخا رغم أنهم في هذه اللحظة لا يطالبون إلا بالاعتراف بالأمازيغية والكف عن ممارسة حرب الإبادة عليها أو هكذا يقولون يغفلون وهم الذين يدعون الحداثة والاستعانة بالعلوم الإنسانية ومعطياتها، أن اللغة والثقافة ظواهر متغيرة متحركة تغتني باستمرار، وأن العناصر الجوهرية القومية التي تحتاجها المجتمعات تصمد وتستمر كلما كانت تعبر عما هو أكثر أصالة وثبات في الهوية، وأن التفاعلات الاجتماعية والثقافية التاريخية تؤدي طبيعيا إلى إحداث تغييرات في الجوانب الأقل ثباتا في الهوية مثل العادات والتقاليد في المقام الأول، ومثل اللغة في المقام الثاني، ومثل العقيدة في المقام الثالث، باعتبارها من أكبر عناصر الهوية ثباتا خاصة إذا كانت وحيا منزلا من عند الله، كما هو الشأن بالنسبة للعقيدة الإسلامية. وبهذه المناسبة، فنحن لسنا دعاة إبادة الأمازيغية لغة وثقافة، بل على العكس ندعو إلى إعادة الاعتبار لها كلغة وثقافة سواء في الإعلام أو التعليم، لكننا لا نرى ما يذهب إليه بعض الأمازيغيين من أن التعريب هو عملية إبادة منهجية للأمازيغية، بدليل أن الدولة لم تكن يوما جادة في التعريب، ولم تمارسه كما كان ينبغي أن يمارس، إننا نقول على العكس من ذلك أن اللغة العربية كانت ضحية لعملية الفرنسة المتواصلة للتعليم والاقتصاد والإدارة، كما أننا لا نرى في الحديث المبالغ فيه عن إبادة الأمازيغية والتعصب المفرط لها والمبالغة في ادعاء شرفها وكمالها وصمودها وثباتها وأصالتها وعبقريتها، ومن ثم المطالبة بدسترتها سوى بداية لمطالب لا ندري ما هي نهايتها. إعادة تأسيس مطلب إنصاف الأمازيغية انطلاقا من ذلك نرى أن المطالبة بإنصاف الأمازيغية تحتاج إلى إعادة تأسيس على أسس موضوعية، ولذلك ينبغي أن تنطلق من منطلقات ومعطيات مختلفة عن منطلقات بعض المتعصبين من الحركة الأمازيغية، ومن هذه المنطلقات: معطى تاريخي: وهو أن الأمازيغية واللغة العربية تساكنتا مع طول التاريخ الإسلامي، ولم ير المغاربة المسلمون في الأمازيغية واستخدامها ما يسيء إلى الإسلام، خاصة وقد كانت الأمازيغية وعاء من أوعية الثقافة الإسلامية. إن الأمازيغ على طول التاريخ لم يروا في اللغة العربية ضرة للأمازيغية ولا في انتشارها، وحتى في تقدمها ولو على حساب الأمازيغية، اضطهادا وإبادة مادام الأمر يتعلق بلغة إسلامية بل بلغة القرآن، وبالمناسبة نحن نقول إن شرف اللغة العربية ليس من ذاتها، بل من شرف مضمونهاورسالتها، وإلا فإن العربية يمكن أن تكون جاهلية: أي لغة تعبر عن نعرات مضرة بالإسلام تماما حينما ركبتها النزعات الشعوبية أو القومية المتطرفة في عصرنا هذا، وحينما تستخدمها اليوم كما استخدمتها في التاريخ البعيد اتجاهات معادية للإسلام من أجل محاربة العقيدة الإسلامية. لا يشمئز من انتشار اللغة العربية وانتشارها وتعميمها بين الأمازيغ المعلمنون أو المتمركسون أي الذين يركبون الدعوة إلى إنصاف اللغة والثقافة الأمازيغية وهذا حق من أجل تصفية الحساب مع الإسلام عقيدة وشريعة وانتماء حضاريا وتاريخيا، وهذا باطل. وينبغي التأكيد على أن هذا التضايق الشوفيني من اللغة العربية ليس سوى موقف نخبة معزولة لا تمثل عموم المغاربة الأمازيغ الذين هم من أكثر مكونات الشعب المغربي حبا لدينهم وعناية بتعليمه وتعلم قرآنه ولغته كما تشهد على ذلك المدارس العتيقة بسوس. معطى اجتماعي واقعي: ونقصد بذلك أننا لا نطرح المطالبة بإنصاف اللغة والثقافة الأمازيغية في السياق المشار إليه، ولكن نطرحها في سياق الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي أدى إلى مسافة شاسعة بين ما كان يسمى بالمغرب النافع والمغرب غير النافع. تبعا لذلك فنحن نرى أن الإقصاء الذي تعاني منه الأمازيغية هو جزء لا يتجزأ من الإقصاء الذي تعاني منه البادية المغربية بمكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية سواء منها العروبية أو الأمازيغية. وقد تصادف أن الجزء الأكبر من البادية المغربية أمازيغي، لكن الإقصاء المذكور والتهميش المشار إليه قد نالت منه البادية العروبية أيضا اقتصاديا واجتماعيا ولغويا وثقافيا على حساب ثقافة المركز أو النخبة. وعلى المستويالمركزي، النخبة تشهد إقصاء أو تمييزا من نوع آخر بين النخبة المعربة وبين النخبة الفرنكفونية. الإشكال الجوهري هو الإقصاء الذي يمارس على المغرب العميق لمكوناته الثقافية واللغوية والاقتصادية والاجتماعية عربية أو عروبية أو أمازيغية من لدن مغرب آخر تكون في المركز مع دخول الاستعمار الفرنسي واستمرار نفوذه بعد الاستقلال. والنخبة الأمازيغية التي تركب اليوم على مطلب إنصاف الثقافة واللغة الأمازيغية لا تفعل ذلك من أجل المغرب العميق ولا بمنطق إقصاء مغرب الهامش أو مغرب الأطراف: مغرب البادية، بل تفعله في إطار منطق ثقافة المركز، بدليل أنها أكثر استعدادا للتواصل والتعبير باللغة الفرنسية منه بالأمازيغية أو العربية، فهم يتحدثون عن الإبادة اللغوية ويسعون إلى تعميم أمازيغية معيارية مصنوعة في المختبرات اللسانية، وينسون ما ينتقدونه على اللغة العربية، أي كونها كانت على الدوام لغة الخاصة في مقابل الأمازيغية التي كانت لغة الشأن اليومي، أي يريدون إبادة تشلحيت وتاريفيت وتمازيغت من أجل لغة مخبرية، ينتقدون من يعلي من شأن اللغة العربية بحكم كونها لغة القرآن ويمارسون تقديسا من نوع آخر للأمازيغية، على اعتبار أنها لغة صمدت للتقلبات بينما اندثرت اللغات الأخرى، باختصار يرفعون دعوى الانتصار للأمازيغية لغة وثقافة، ولكن بحجج يمكن أن تنقلب عليهم بسهولة، والأمازيغيون العلمانيون لا يبالون مادام ذلك خطوة نحو تحجيم اللغة العربية وتحجيم قنطرة تواصل مجتمعنا مع القرآن ومع غيره من الشعوب العربية والإسلامية.