أنت في مسير، يوشك أن ينتهي، فهل وقفت مع مسيرك قبل الانتهاء، وهل دققت النظر فيه قبل الفناء، وهل وقفت مع نفسك متسائلاً: هل أنا بمسيري من أهل السعادة أم من أهل الشقاء؟! فحسن المسير إلى الله ليس بكثرة العمل، وطول الصلاة، وكثرة الصيام، بل بسلامة ما في الصدور، من حب وصدق ولاء، وقرب من الله، وخوف منه وإشفاق من عذابه، ورجاء لرحمته، وصفاء لعباده.. سلامة الصدور تعني نقاء القلوب، وسمو النفوس، وطهارة الأرواح، ومن متطلبات حسن المسير سلامة الصدور، فبدون هذه السلامة لا يحسن مسير، فالحسن ثمرة يانعة لهذه السلامة، والسلامة شرط هذا الحسن. ولقد مضى قوم من الأولين، أدركوا سر المسير، فساروا على هديه، وعملوا بشرطه، فوصلوا بالسلامة. ومما يذكر عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قوله لأصحابه: أنتم أكثر صلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم. قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة. وماذا تنفع كثرة الصلاة والصيام مع حب الدنيا؟! قليل من العمل مع زهد حقيقي في الدنيا يغني عن كثيره، بل خير من كثير من العمل مع سيطرة الدنيا. هذا أمر مهم، التفت إليه، وانتبه إلى قلبك، ولا تغرنك كثرة عملك. وقال بكر المزني رحمه الله: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره. فقال بعض العلماء: الذي وقر في صدره هو حب الله والنصيحة لخلقه. وسئلت السيدة فاطمة بنت عبد الملك، رحمها الله، زوجة عمر بن عبد العزيز، بعد وفاته عن عمله، فقالت: والله، ما كان بأكثر الناس صلاة ولا بأكثرهم صياماً، ولكن والله، ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف، حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم. ومن هنا أكد بعض السلف، رحمهم الله، هذا المعنى الخطير بقوله: ما بلغ من بلغ عندنا بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بسخاوة النفوس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة، واحتقار النفس.. ومن شأن الأعمال أن تصنع النفوس، وتعمل على تأديبها، وتنقيتها وتهذيبها، ولما لا تقطف ثمار الأعمال الكثيرة والكبيرة، أخلاقاً حسنة، وصفات جميلة، وروحاً صافية، ونفساً كريمة، وهمة عالية، وبذلاً وعطاءً.. فاعلم أنه لا خير فيها. ولذلك لما ذكر لبعضهم اجتهاد بني إسرائيل في العبادة، قال: إنما يريد الله منكم صدق النية فيما عنده، فمن كان بالله أعرف، وله أخوف، وفيما عنده أرغب، فهو أفضل ممن دونه في ذلك، وإن كثر صومه وصلاته. معاشر السائرين إلى الله: إن الشأن في سلامة الصدر، وليس في كثرة العمل، أوحجم الجهد، فقد حج رجل من الكوفة محرماً منها، فأصابه الجهد، فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو سيئ الهيئة، فأخذ بيده، وجعل يدور به الحلق، ويقول للناس: انظروا إلى ما يصنع هذا بنفسه، وقد وسع الله عليه، فقد تكلف من التطوع ما يتضرر به في جسمه.. وصام أحدهم في زمن التابعين، حتى عجز عن القيام، فكان يصلي الفرض جالساً، فأنكروا ذلك عليه، حتى قال عمرو بن ميمون رحمه الله: لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقل من الصيام، ويقول: إنه يضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي. وما أجمل ما قاله الإمام يحيى بن معاذ رحمه الله: كم من مستغفرممقوت، وساكت مرحوم، هذا استغفر وقلبه فاجر، وهذا سكت وقلبه ذاكر. فليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام على فراشه، ثم يصبح وقد سبق الركب.. من سار على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاجه وإن اقتصد، فإنه يسبق من سارعلى غير طريقه وإن اجتهد. فالله.. الله في سلامة الصدور، معاشر السائرين إلى الله، حتى يحسن مسيركم، الذي لا يمكن إحسانه بكثرة الأعمال، مع فساد ما في الصدور.