تعجني تلك العبارة السارية مجرى المثل: أن المريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب، والسائق إذا حصل لسيارته عطب قصد الميكانيكي، إلا الإسلام فكل من عرف حرفا منه ادعى الفقه فيه والإفتاء في قضاياه، وما ذلك إلا أنه في اعتقاد البعضحائط قصير يسهل القفز من فوقه، سواء من أعدائه أو من أبنائه الملتزمين ببعض أوامره. فأعداؤه يحاولون جعله نصا مثل سائر النصوص الأدبية أسوة بقراءات رولان بارت وأمبيرتو إيكو وغيرهما من نقاد وسيميولوجيين للكتاب المقدس عند اليهود والنصارى، إذ أصبحت القراءات، التي تدعي القراءة الحداثية للقرآن، تجد لها الدعاية العالية في الإعلام المرئي والمكتوب، والدعم المادي من جهات متربصة في محاولة حثيثة لنزع أية ضوابط علمية تحكم تفسير آي القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة. أما أبناؤه الملتزمون ببعض أوامره، وإن صح منهم القصد، فقد شاع أن نجد من بينهم من يفتي في قضايا تحتاج إلى جهابذة العلماء، وبكل سهولة، نجد أن البعض وقد قرأ كتابا واحدا في الفقه الإسلامي أو مطوية من المطويات، أو استمع إلى شريط ديني، أو اطلع على فتوى أو رأي فقهي في الانترنيت أو من فضائية، يصير ناطقا باسم الدين، يدعي معرفة الصواب من الخطإ، وهو الذي يجدد الفهم لقضايا أثبت العلماء حرمتها بالأدلة الشرعية والعقلية، وهو الذي يحاول تجديد الخطاب الديني ليلائم العصر بإطلاق ثورة فكرية تخلخل الثوابت، وتشوش على المعلوم من الدين بالضرورة، وإذا ما أُرشِد بعضهم ليكبح تجرأه على الإفتاء في القضايا التي لها أهلها، واجه ناصحيه بالتزمت والتضييق على حرية الفكر والتعبير. أما الفئة الثالثة فتراقب هذه الحملات من الطرفين مستسلمة تارة، أو مستنكرة ذلك في نفسها بحجة الأخذ بأضعف الإيمان، خاصة أن وسائل تبليغ خطابها المقوم للقراءتين، والمرشد لها، تحول دونه حواجز وسدود. إن من حق عالم اللغة أن يجدد في فقهها ونحوها، ويسعى لتبسيطها لغير الناطقين بها، وليس فقط لأصحابها، وهو على ذلك مثاب مأجور، ومن الطبيعي أن يطور الطبيب آليات اشتغاله وبحثه ليكتشف دواء جديدا تنتفع به البشرية جمعاء، لكن ليس من حقهما، أو غيرهما، أن يبتا في مسائل الحلال والحرام دون ضوابط علمية حددها أهل العلم والفقه، فلكل مجاله ولكل وجهته التي بها ينفع سائر خلق الله تعالى. لقد آن الأوان لنقول لصاحب هذا السلوك وغيره: أنت لستَ بفقيه، حتى تفتي في الحلال والحرام، وإن كان من حقك أن تفكر بحرية وتنتج أفكارا جديدة، لكن التزم حدودك. وليست هذه النصيحة حجرا عليك أو على أفكارك، فلكل ميدان فرسانه، ولكل علم رواده، فإذا أردتَ أن تخدم حضارة أمتك بصدق وإخلاص وتجرد، فقم على ثغر تخصصك ولا تخبط هنا وهناك، بأن تكون في الصباح السياسي المحنك وبعد العصر مفتي الديار، وعند المساء لا هذا ولا ذاك، فقد ولى زمان العالِم الموسوعي. وليحذر كل منا أن ينطبق عليه بعض ما أخبر به المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصَدق فيها الكاذب ويُكذب فيها الصادق ويُؤتمن فيها الخائن ويُخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟، قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة. والله تعالى أعلم وأحكم.