العراق اسم جامع لتأريخ طويل من الحضارة والعلم والإسهام في تقدم البشرية ورقيها فقد كان العراق مهدا للحضارة ومنبعا للتشريعات القانونية، وعاشت علي أرضه أكثر من حضارة أسهمت الي حد كبير في تعزيز المعاني والقيم الإنسانية. وقد رسخ الإسلام بعد دخوله الي العراق ما تقدم من معان وقيم وأرسي مبادئ العدل والمساواة وحرية الاعتقاد التي أمنت لغير المسلمين معيشة آمنة وحياة فاضلة بعيدا عن الاضطهاد الذي كانوا يعانونه في أماكن كثيرة في العالم القديم، ولم يشهد العراق علي مدي تاريخه الطويل صراعا دينيا أو طائفيا أو عرقيا. وقد نجح العراقيون في كل العصور في المحافظة علي روح التعايش بين جميع اطيافه ومكوناته علي الرغم من كل الظروف الصعبة التي مروا بها والتحديات الخارجية التي توالت عليه، وهكذا كان العراق ينهض بسرعة بعد كل نكبة تلم به؛ لينفض عن نفسه غبار الحروب والاحتلالات ويعود ليأخذ مكانه الطبيعي في موكب صناع الحياة والحضارة. وقد توالت علي العراق في العصر الحديث مراحل عديدة خرج معافي منها جميعا علي الرغم مما اصابه فيها من ضرر وآلام، وكانت آخر هذه المراحل الخمسة وثلاثين عاما الأخيرة التي عاش فيها العراق في ظل حكومة اتخذت منهجا فكريا سياسيا معينا ايديولوجية لها وعملت علي فرض هذه الايديولوجية علي الشعب العراقي كله، وادخلت العراق في سلسلة من التهورات السياسية كان الخاسر الوحيد فيها هو الشعب العراقي؛ الأمر الذي أسلمه الي أن يكون مؤهلا لحصار طويل مفروض عليه ذهب ضحيته مئات الآلاف من ابنائه أغلبهم من الأطفال وانتهي هذا الحصار الي غزو واحتلال امريكي وبريطاني بدون غطاء دولي شرعي وخلافا لإرادة الرأي العام الدولي ووفق حجج داحضة ثبت بعد زمن ليس بالطويل من عمر الاحتلال زيفها وبطلانها وأشهرها فرية ما يسمي بأسلحة الدمار الشامل. وقد ازداد الأمر سوءا بعد الاحتلال الذي ظهر سريعا للعراقيين أنه لم يحقق لهم ما يعد به من ديمقراطية وحرية وأمن وإخاء بل عاشوا في ظله أياما ملؤها الخوف والفقر والاضطهاد وانعدام الحريات، ومارست هذه القوات بحقه كل أنواع الاستخدام المفرط للقوة والقتل العشوائي والعقاب الجماعي للمدن بحصارها واجتياحها وترويع أهلها وهدم منازلهم فوق رؤوسهم، وزادت علي ذلك بامتهان العراقيين والانتقاص من كرامتهم بما سامته إياهم من تعذيب بشع ومقزز كشفته فضيحة سجن أبي غريب المشهورة وتجاوزات القوات البريطانية علي المعتقلين في مدينة البصرة وغيرها من الشواهد الكثيرة. وقد صاحبت هذه الجرائم المنتهكة لحقوق الإنسان العراقي حالة مزرية من الاستهانة بأحوال المواطن وإهمالا يكاد يكون تاما بمصالحه المعيشية والخدمات الضرورية التي لم تفلح الحكومات المتعاقبة علي تقديم شيء يذكر منها للشعب، إضافة الي تزايد نسبة العاطلين عن العمل التي عملت جهات عديدة علي تأصيلها لدفع العاطلين من الشباب الي الانخراط في المؤسسات العسكرية والأمنية التي تلقي بهم في أتون حرب طاحنة لا طائل من ورائها، واسلمت غيرهم الي أتون حرب أخري من نوع آخر وهي حرب المخدرات التي اتخذت من العراق مسرحا ومعبرا الي دول الجوار بعد أن كان العراق من الدول القليلة في العالم الخالية من هذا الداء الوبيل. وقد كانت تصرفات ادارة الاحتلال مثيرة للشك منذ البداية فقد شجعت بل رعت في أحيان كثيرة عمليات السرقة والنهب المنظم للمؤسسات والأموال العامة وتركت مخازن السلاح مشرعة الأبواب وحلت مؤسسة الجيش العراقي وأبدلته بقوات مشكلة من الميليشيات الحزبية ذات البرامج السياسية الخاصة البعيدة كل البعد عن البرنامج الوطني والمصلحة الجامعة لكل أبناء العراق، وأرست مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية في الحياة السياسية ممهدة بذلك لفتن طائفية وعرقية خطيرة عملت بعض القوي السياسية المستفيدة من هذا الوضع علي استثمارها والاستفادة منها فيما بعد. هذا هو واقع العراق اليوم في ظل الاحتلال الذي يتحمل قانونيا واخلاقيا المسؤولية كاملة في كل ما يجري؛ لأنه المتسبب الأول في كل ما يحدث ويحدث الي الآن بسبب غزوه غير المشروع للعراق واخلاله بعد ذلك بواجبه القانوني الذي يفرضه عليه القانون الدولي. هذا هو واقع العراق اليوم وغير خاف أن استمرار هذا الوضع السيئ ستكون له تداعيات خطيرة في المستقبل القريب جدا علي العراق والمنطقة بل العالم كله. والبحث عن الحل هو السؤال المطروح بقوة الآن وينبغي لكل مهتم بالشأن العراقي ان يجد له جوابا شافيا. وعلى الرغم من أن الجواب من الوضوح بمكان بحيث تكاد السطور المتقدمة في وصف الأوضاع في العراق كفيلة باعطائه وهو إزالة السبب الذي أحدث كل هذا الضرر بالعراق والعراقيين وهو الاحتلال؛ إلا أننا نجد أن الإدارة الأمريكية تصر بقوة علي تجربة خيار واحد وهو المشاركة بالعملية السياسية الراهنة في ظل الاحتلال التي تفتقر لأبسط عناصر النزاهة والضمانات اللازمة لأي عملية سياسية يراد منها إنهاء مشكلة خطيرة ذات أبعاد مختلفة سياسية وعسكرية ونفسية. إن رفض بعض القوي السياسية والمرجعيات الشرعية العراقية للعملية السياسية الحالية لا يقوم علي رفض العمل السياسي السلمي والجنوح الي العنف غير المشروع كما تروج الآلة الإعلامية لقوات الاحتلال ؛ إنما يقوم علي أساس أن هناك إيمانا من هذه القوي بان العدالة والحرية والاستقلالية شروط أساسية لأي عمل سياسي صحيح، إن هذه الشروط غير متوفرة في العملية السياسية الجارية فإنها غير مؤهلة لتقديم نتيجة سليمة للشعب العراقي يأمن من خلالها الي تحقيق مصالحه والعيش في سلام دائم يطلبه ويعمل حثيثا من أجله. وتتعزز مخاوف هذه القوي السياسية بالشواهد الكثيرة لما شاب عملية الانتخابات السابقة والاستفتاء علي مسودة الدستور بعدها من تجاوزات خطيرة وعمليات تزوير منظمة أسفرت عن مصادرة رأي قسم كبير من الشعب العراقي. ومنها فإننا نعتقد أن العملية السياسية لابد أن تتم في ظروف صحية بعد علاج أسباب فسادها وهذا لا يكون إلا بعد أن يزول العامل الرئيسي المؤثر فيها وهو سلطة الاحتلال، وعليه فإننا نري للقضية العراقية حلا لا يخالف المنطق ولا يخرج عما هو متعارف عليه في المجتمع الدولي؛ بل الحل الذي نراه هو الذي يتناسب فيما نري مع الشرعية الدولية ويسعي الي ترسيخ احترامها، ونعتقد أن في هذا الحل إيقافا لنزيف الدم الذي يجري يوميا في الساحة العراقية، ويؤسس لدولة القانون التي تحمي حقوق الجميع وتسعي لتأمين ما يستحقه الإنسان للعيش الكريم الذي يحفظ له عزته وكرامته، ويتمثل هذا الحل في مشروع بديل للاحتلال سبق لنا تقديمه الي الأممالمتحدة بشخص السفير الأخضر الإبراهيمي وإلي الجامعة العربية؛ ويقوم هذا الحل علي الآتي: 1 إعلان قوات الاحتلال عزمها علي الخروج من العراق وفق جدول زمني معقول، ومكفول بضمانة دولية. 2 إحلال قوات دولية بديلة عن قوات الاحتلال تعمل علي سد الفراغ الأمني الحاصل من انسحاب قوات الاحتلال. 3 تشكيل حكومة عراقية مستقلة بإشراف الأممالمتحدة لمدة ستة أشهرتتولي التهيئة لإجراء انتخابات عامة تشارك فيها كل المكونات والقوي العراقية بإشراف دولي كامل ومباشر. 4 تفرز الانتخابات العامة عن حكومة عراقية منتخبة تقوم بإنهاء كل آثار الاحتلال وإعادة بناء المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية بناء وطنيا متكاملا. وانطلاقا مما تقدم كانت مشاركتنا في مؤتمر الوفاق الوطني بالقاهرة في الشهر الماضي؛ حيث تم مناقشة هذه الأسس التي نعتقد أنها خيرعلاج للقضية العراقية، ولكن مع الأسف رأينا أن عددا من القوي التي وقعت علي هذا الاتفاق قد تنصلت منه قبل أن يجف حبره؛ فجاءت ممارساتها بعيدة عن روح التوافق التي أقرت، وثبت كذلك أن سلطة الاحتلال لا تريد أي توافق فقد صرح بعض قياداتها بعدم اعترافهم بما توافقت عليه القوي المشتركة في المؤتمر. هذه رؤيتنا للواقع العراقي وتلك هي اقتراحاتنا من أجل الخروج من هذا الواقع إلي مستقبل أفضل ينعم فيه العراقيون جميعا باستقلال بلدهم ووحدته وسيادته. فإن كان هذا الحل مصيبا فنأمل أن يتبناه كل العقلاء ويسعون إلي إشاعته.