نجد على مسار تاريخ الإنسانية طبقة الكتاب والموثقين على رأس طبقات المجتمع، مما يعني أن وعي البشرية بقيمة عملية التوثيق شيء متوغل في القدم، وتعتبر من أشرف وأنبل الوظائف الإنسانية على الإطلاق، إذ قيمة الأشياء سواء كانت إبداعا أو معاملة أو ابتكارا، أو أي نشاط إنساني بصفة عامة، يعتبر لاغيا إذا لم يحظ بالتوثيق أو التدوين وفق ضوابط علمية، وقد رسخ التصور الإسلامي منذ أكثر من 14 قرنا هذه الدلالة حيث يبدو ذلك واضحا عندما نجد أن أول لفظة نزل بها القرآن الكريم هي اقرأ ونجد من ضمن سور القرآن سورة القلم. وباعتبار أن الإنسان تلتصق به أكبر غريزة فطرية كونية، وهي الحفاظ على حقوقه وممتلكاته، وأن حاجاته كثيرة ومتنوعة، ولا يستطيع أن يباشر ذلك بنفسه، من هنا انبثق فن التوثيق، الذي يرسم خطوط كل معاملة، وينظم سيرها طبقا للنصوص التشريعية والفقهية والقوانين والأعراف الجاري بها العمل، كما يعتبر الوسيلة الوحيدة لتثبيت الحقوق العينية والشخصية، وحفظ المال، وصون الحقوق، وحماية العرض، وإقامة العدل، والفقه الإسلامي في علاقته بعلم التوثيق غني بأئمته وعلمائه ونظاره، الذين اعتنوا بالعقود المعاملاتية وغيرها، وإن العلماء المغاربة أبدعوا في هذا المجال بشكل لا مثيل له على الإطلاق، وتميز بذلك عن جميع أنحاء العالم الإسلامي، وخدموا هذا العلم خدمة جليلة، وراكموا لما سبق في الأندلس الشيء الكثير، فقبلوا شهادة اللفيف في المعاملات المدنية والتجارية والأحوال الشخصية وقاموا بتغطية شاملة لكل المعاملات، ووضعوا وثائق المواجب اللفيفية، مستندهم في ذلك الدليل الأصولي المسمى بالمصالح المرسلة، وأنشؤوا استفسار البينات على الكيفية المعروفة اليوم، وضمنوا الوثائق أحكاما قضائية، فأصبحت الوثيقة مزيجا من التوثيق وفقه القضاء. ومن الموثقين المغاربة القدامى قاضي فاس محمد بن أحمد المتوفى سنة 779 ه. وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي المكناسي حيث كتب شرحا على وثائق أبي القسم الجزيري سماه المنهل المورود في شرح المقصد المحمود من 3 أجزاء، وفي القرن 10 ه قام بعض علماء التوثيق بتجريد الوثائق من الأحكام والشرح، والاقتصار على موضوع الشهادة، ومنهم قاضي شفشاون أحمد بن الحسن الغماري، الذي ألف اللائق لمعلم الوثائق، وأصبح الدليل الرسمي للمغاربة، ولم تتوقف حركة التأليف في هذا المجال في أي حقبة من الحقب الزمنية، حيث استمر ذلك إلى حدود بداية القرن، الذي عرف الكتاب القيم جدا وهو التدريب على الوثائق العدلية لصاحبه أبي الشتاء الحسن الغازي الحسيني الشهير بالصنهاجي المتوفي سنة ,1946 الذي يعتبر أول كتاب في فن التوثيق المطعم بالقوانين الحديثة والأساليب الجديدة، كما يمتاز بالوضوح والإيجاز والاقتصار على موضوع الوثيقة، وبيان أركانها وشروطها، بأسلوب دقيق فصيح لا يقبل الاحتمال، ولا يدخله تأويل، وفق منهجية فريدة معاصرة، مستفيدا من كل الإبداعات السابقة، وبذلك يعتبر نبراسا منيرا لكل مهتم من موثقين وقضاة ومحامين... وقد أفلح الدكتور عبد الرحمان بلعكيد في إشارة له في كتابه وثيقة البيع بين النظر والعمل ص 297 حيث قال: الوثيقة أداة لكشف الواقع الحضاري والثقافي والاجتماعي والسياسي الذي تكون عليه الأمة، فليس الهدف هو تحرير الوثيقة وكفى، وإنما حياكتها وسبكها لتبقى شهادة على محررها والمجتمع الذي حررت فيه. من هنا تظهر خطورة التوثيق وأبعاده الحضارية والأمنية ودوره في النشاط العام للدولة والمجتمع وتحقيق الرواج الاقتصادي والعمراني. وقد عاشت هذه المهنة تصارع الصعوبات تلو الأخرى، وتُقدم الخدمة التوثيقية الحضارية في أصعب الظروف حتى في الخيام في الأسواق، وفي مناطق نائية بأجور بسيطة، وهي صابرة. كما تعتبر المكاتب العدلية باعتبارها سهلة الولوج ملاذا لتقديم آلاف الاستشارات يوميا، وتقوم بتنوير العديد من الناس، مجيبة عن تساؤلاتهم وحل مشاكلهم ومدهم بالمعرفة القانونية والشرعية، بما في ذلك المثقفون والمحامون، بالمجان ونحن لا نمن ذلك على وطننا الحبيب، إلا أنه من هذا المنطلق نتصور أن على مجتمعنا العزيز شعبا وحكومة دينا لهذه المهنة التي أعطت وما زالت، لهذا الوطن الشيء الكثير، منه احتضانها العميق للهوية والخصوصية، خاصة وأنها أصبحت تضم الآن خيرة شباب الأمة معرفة وسلوكا، ومن خريجي الجامعات والمعاهد العليا مكيفة التقنية الحديثة، ضمانا لاستمرارها وإشعاعها الحضاري في زمن يعرف اجتياح العولمة والحداثة الوافدة. وإننا نرحب بهذا بشغف شديد عندما تعني توظيف الجانب التقني والوسائل العصرية والأفكار الإيجابية أما في شقها المذهبي، الذي يعني توحيد الكون على أن يتخد نمطا واحدا في التفكير وأسلوب الحياة واغتيال الخصوصيات الثقافية، فهذه جريمة تختزل مفهوم استعماري بطريقة جديدة تكان تكون أبشع عشرات المرات من الصورة العسكرية للاستعمار، وذلك بمسوغ واحد فقط هو امتلاك القوة، وقد لاحظ العالم كيف ركزت أمريكا في حربها على العراق على تدمير المراكز الثقافية والفكرية والحضارة لهذا البلد العريق جدا، مما يتضح معه النية المبيتة لمحق المخزون الثقافي لدى الآخر. وإذا كان الحداثيون في المغرب لا يشكلون سوى أقل من 10% على حد قول الدكتور الجابري وأن 90% تتعاطف مع المرجعية الإسلامية، وبذلك تنضبط هذه النسبة للدستور المغربي، وعندما خرجت مدونة الأسرة إلى الوجود بعد مد وجزر دام طويلا، علل الحدثيون وابتهجوا معتقدين أنهم حققوا انتصارا هائلا للمرجعية الحدثية، في حين يرى الدكتور الجابري حسب تصريحه في الاستجواب التلفزي الذي أقلق الكثير من الحداثيين، أن كل ما جاء في التعديلات موجود في الفقه الإسلامي، وهو قليل جدا بالنسبة للزخم الهائل الذي أنتجه العقل الإسلامي في سياق الفكر الحر... وبذلك فإن الدكتور الجابري عزف على نقطة مهمة يغفلها الحداثيون وهي أنه من مميزات الشورى على الديمقراطية على صعيد الفقه والفكر أن الشورى تأخذ برأي الأغلبية وتسجل رأي الأقلية، والكتب الفقهية كما يعلم الجميع نجد فيها قال الجمهور كذا وقال فلان كذا... وهذا في حد ذاته يعتبر قيمة كبرى وامتياز شديد الأهمية حيث تحترم أي مقولة فكرية. وذلك لإفادة التاريخ في الماضي والمستقبل، وهذا نفسه هو الذي جعل الدكتور الجابري كمتخصص يقول إن التعديلات الأخيرة لم تخرج عن الفقه الإسلامي مع أن الحداثيين ظنوا عكس ذلك، أما الديمقراطية، مع كل امتيازاتها في سياق الحكم وغيره، فإنها لا تعترف إطلاقا بقول الأقلية ولا تسجله. وانطلاقا من النسب التي وردت آنفا، وفي سياق مفهوم الديمقراطية التي من أبرز أركانها الأخذ بقول الأغلبية وجب على الحداثيين الاشتغال من داخل الهوية، وهو مطلب الأغلبية، أما اشتغالهم على هوية مستعارة فهذا يصنفهم في خانة التعسف على أهم آليات الديمقراطية، وهو الانصهار مع الأغلبية. ثم إنه كما قال الدكتور طه عبد الرحمان: لو فرضنا أن أحدا ترك الاهتمام بتراثه الأصلي، فلا يلزم من ذلك أنه يصير إلى الانقطاع عن كل تراث، بل سيتجه إلى الاهتمام بتراث غيره والذي يدعو باسم الحداثة إلى الكف عن الرجوع إلى التراث، فإن دعوته لا تعدو كونها تستبدل مكان الانشغال بالتراث الأصلي الانشغال بتراث أجنبي. لأن الحداثة عقلا سندها التراث الغربي وحاملة لسماته وآثاره، ولو نسب إليها الموضوعية والعلمية والعقلانية. بالإضافة إلى ذلك، فهذا الارتماء الكلي في أحضان الحداثة السطحية يسقط صاحبه في أرذل حمولة فكرية وهو التقليد والمحاكمات والبدائية. وهذا لا يعني أنني أدعو للعودة إلى الماضي وننغلق فيه على شكل أجدادنا، فمن يدعي ذلك فهو مفتر أو غافل. وإنما ينبغي أن نجدد دلالة الحداثة، هل تعني. قيم وثقافة وأسلوب حياة... كما أراد الأمريكان أن يسوقونها إلى العراق في تعرية أبنائه واغتصاب نسائه... ويلاحظ القارئ الفرق بين ذلك وبين الآية الكريمة (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) سورة الإنسان، أي أن من أخلاق الجندي المسلم أن يطعم الأسير وهو في أمس الحاجة إلى الطعام. وعليه، فأنا أميل إلى لفظة التحديث والتجديد والتطوير. وهذا ما لا يريد الغرب أن يمكننا منه، أما أن تعرى بناتنا بطونهن وأن يغلق شبابنا آذانهم بالوالكمن فهذه هي الحداثة البئيسة... وإن الشيء الذي أخذني إلى هذا الانزياح كما يبدو للبعض، هو المرارة القاتلة التي يشعر بها السادة العدول هذه الأيام، وهم يروا الإجهاز على هذه المهنة التي تؤرخ للإبداع والنبوغ المغربي، وهذا الإهمال من طرف الوزارة الوصية في تعاملها مع هذه المهنة البالغة الحساسية والمتجدرة في عمق المجتمع على اختلاف طبقاته، إذ كيف يعقل إصدار قانون السادة النساخ وهذا نؤيده ويترك قانون خطة العدالة مع أنها هي الأصل، ولو قارنا بين التشريع في التوثيق العدلي والعصري لوجدنا تفرقة كبيرة بين المواطنين، وهذا حيف وظلم. لذا، فالسادة العدول يطالبون بالمساواة ووضع إطار قانوني حضاري متطور، وتمكينهم من هيكلة جديدة تتماشى مع مستجدات العصر. وإن هذا الصرح الشامخ في التاريخ نضعه في يد آمنة، وهو صاحب الجلالة الذي نشأ على تذوق وتثمين كل قيمة مضافة تتعلق بالخصوصية المغربية في جميع مجالات الفكر والثقافة واللباس وفن العمران والزخرفة وغيرها، وهذا من شأنه أن يشعل من جديد الحس الوطني في النفوس، ويوقظ شرارة الخلق والإبداع، وليس التقليد والاتباع... بقلم مذكر مولاي عبد الله عدل محلف بابتدائية برشيدمخ