أمضى زوجها الشهيد محمد لحمادي رحمه الله 15 سنة من العذاب والأسر في سجون البوليزاريو، وأمضت هي مثل هذه المدة تنتظره وتصارع أمواج الحياة وحيدة بمجداف بسيط لم يكن في بداية سنوات أسر الزوج يتعدى 850 درهما هي ما بقي يصلها من راتبه، وتزحزح قليلا بعد خمسة عشر عاما ليصل مبلغ 2000 درهم شهرا واحدا فقط قبل عودته إلى الأرض التي وهب حريته ونهش التعذيب والأمراض جسده من أجلها. ورغم ذلك أمضت ربيعة الطورشي 15 سنة، مرت عليها كل سنة منها كدهر طويل حسب ما أفضت به لالتجديد ، ولن يحتاج المرء إلى كثير من التجربة أو الخيال ليتصور ويحس بمعاناة زوجة انتظرت زوجها كل هذه السنوات، وأضافت إلى مرارة الفراق شظف العيش، ولما عاد تسلمته جثة هامدة لأن روحه فاضت ثلاثة أيام فقط بعد وصوله إلى أرض الوطن، ثلاثة أيام قضاها في المستشفى ولفظ فيه أنفاسه الأخيرة ولم تظفر منه ربيعة ولو بنظرة أو كلمة أو حتى نفس واحد. لكن الذي لا يستساغ ويصعب على من تتبع قصة ربيعة الطورشي أن يفهمه ويبلعه هو أن ينزع منها بعد موت زوجها حتى ذلك المجداف البسيط الذي كانت تجدف به لتنقذ مركبها في بحر الحياة الهائج بعواصف الزيادات المتكررة في الأثمان وفي الخدمات، وها هي اليوم في حي الخوادرية بمدينة خريبكة تعيش على إعانات المحسنين ويهددها صاحب البيت الذي تسكنه بالإفراغ والطرد إلى الشارع ما لم تؤد ما بذمتها من ديون الكراء، الذي لم تجد ما تسدد به ثمنه، لأنها منذ دفنت زوجها بمدينة الصويرة أواخر شهر يناير الماضي دفن المسؤولون تلك الدريهمات التي كانت تقتات منها. الأمل الذي ضاع تزوجت منه وعمري 14 سنة، وعشنا معا 5 سنوات، ثم نقلوه إلى الأقاليم الصحراوية، وبعد ذلك لم أره إلا جثة هامدة، بدأت ربيعة الطورشي تحكي معاناتها وكلماتها مثقلة بهموم السنين القاسية التي كتب عليها أن تعيشها في لهب الانتظار والخوف من المستقبل، والتي لم يكن يبدد سوادها غير بارقة أمل انتظار العودة، وهي البارقة التي انطفأت إلى الأبد منذ يوم الاثنين 24 يناير ,2005 يوم وفاة زوجها بالمستشفى العسكري بمراكش، وفاة جاءت أياما فقط بعد وفاة أبيها، وهكذا افتتحت لها الأقدار سنة جديدة بسيل من الأحزان. وتمضي ربيعة في الحكي وعدد التنهدات التي تخترق فتحتي أنفها يكاد يفوق عدد الكلمات التي تقطر من شفتيها: انتقل محمد لحمادي إلى الصحراء صيف عام ,1988 وقد أسره الانفصاليون في شهر يناير ,1989 وكنا آنذاك سمعنا تصريحا له في إذاعة الجزائر يخبرنا فيه أنه وقع أسيرا في يد البوليزاريو، سمعناه يومي الجمعة والاثنين، حيث كانت مثل هذه النداءات تبث بعد الثامنة ليلا، ثم انقطعت أخباره مدة طويلة إلى أن تدخلت منظمة الصليب الأحمر الدولي وأصبح يراسلنا تحت إشرافها. وتتذكر ربيعة كيف أن الرسائل التي كانت تتلقاها من زوجها كانت تبعث فيها أملا كبيرا وتحرك في دواخلها اليقين بأنه لا بد يوما عائد، وقد جاء في إحداها: تقبلي أسمى عبارات التقدير مع التهاني الحرة، راجيا من الله أن يطلق سراحي ونتعانق من جديد ونزيل الشوق الذي كان يملؤني منذ زمن بعيد، ولم تستطع ربيعة أن تقاوم دموعها المنهمرة على خدودها الذابلة وهي تتذكر أنها لما سمعت بإطلاق سراح دفعة من أسرانا لدى البوليزاريو (لا تتذكر التاريخ بالضبط) لم تستطع أن تقاوم دافع الشوق للقاء الزوج الأسير فرحلت بسرعة إلى مدينة أكادير، لكن أملها خاب لما علمت أنه لم يكن ضمن تلك الدفعة، فعادت وكتبت له رسالة تخبره بالأمر، فأجاب عليها برسالة مما جاء فيها: لقد توصلت برسائلك، فشكرا لك زوجتي الكريمة، إني أحييك من بعيد قريب، أتمنى من الله أن يتحقق كل ما تصبون إليه ويرزق لك الشفاء العاجل، لقد توصلت برسالتك الأخيرة كما ذكرت أنك سافرت إلى أكادير لأجل لقائي، لكن حظي مازال بعيدا، ربما سيكون قريبا بإذن الله، لقد تأسفت كثيرا لما ذكرت لي أنك سافرت إلى أكادير وذاك حقا هو الواجب، لكن (كلها وسعده)، ويضيف لحمادي رحمه الله في رسالته: كما أرجوك أن ترفعي سلامي إلى سعيدة والأهل والأحباب والجيران، وكل من يسأل عني بالخير والإحسان، زوجتي الكريمة، أرجوك ثم أرجوك ان تتحلي بالصبر، إذا طال العمر سنلتقي بإذن الله، كما أقول لك مرة أخرى أرجوك أن لا تتحركي من الدار، حينما سآتي سآتيك حتى المنزل، ولا تزعجي نفسك إني أتمتع بصحة جيدة وأتحلى بالصبر حتى يفرج الله... لا ثقة في المرّوك منذ أن تزوجت ربيعة طورشي محمد لحمادي، عرفت أنه وشم على ذراعه عبارة لا ثقة في المروك بعدما حصل له نزاع مع شخص كان من أعز أصدقائه، ولم يكن هو يعرف أن هذه العبارة ستبقى ترددها زوجته بعد وفاته بسبب ما تعرضت له من إهمال في بلدها، وبسبب ما وشمته الأحزان في قلبها سنة بعد سنة. لاحظت ربيعة أن لحمادي بعد أن أسره الانفصاليون أكثر من الوشم في جسده: كان يرسل لي صورا من تندوف تقول ربيعة فلاحظت أنه أكثر من الوشم في يده، فأرسلت له أذكره بأن الوشم حرام، وبأنه لا يجوز له أن يترجم معاناته وغربته بهذه الطريقة، لكن فيما بعد عرفت من أحد أصدقائه العائدين أن الانفصاليين هم الذين كانوا يميزون الأسرى بالوشم، حيث يكتبون لهم أرقام الاعتقال على جلودهم بالوشم، ويكتبون أو يرسمون عليهم أشياء أخرى مختلفة حتى يسهل تعقبهم واكتشافهم إذا فروا. مثل هذه الرسائل التي كشفت عنها ربيعة الطورشي لالتجديد هي ما تبقى لها منه بعدما تسلمت جثمانه وكأن المسؤولين تخلصوا منه، أتسلى أحيانا بهذه الوثائق والصور، تقول ربيعة، وأتذكر بها الماضي الذي لم يكتب لي أن أبني عليه مستقبلا، وتتذكر أيضا كيف أن ممثلة الصليب الأحمر الدولي التي كانت تلتقيها كانت تعجز عن وصف معاناة زوجها وكل الأسرى، وكانت تقول لها: لو قلت لكم إنهم معذبون فهذا لن يكفي، ابحثوا عن تعبير أكثر من العذاب وصفوا به معاناة أسراكم. وبالإضافة إلى الرسائل، وجدت في الحقيبة الصغيرة التي كانت معه في المستشفى العسكري بمراكش صورة كبيرة ومشطا ومقصا نصحها الناس برميه مخافة أن تكون فيه مكروبات أو فيروسات من المرض الذي كان به فرفضت وغسلته بماء جافيل واحتفظت به لتشم فيه رائحة الزوج الأسير كما وجدت في الحقيبة الصغيرة فرشاة ومعجون أسنان رغم أنه لم تكن له أسنان عندما ألقت النظرة الكسيرة الأخيرة على جثته. أبواب موصدة أخرجت ربيعة من صندوق خشبي جمعت فيه عددا من الأوراق والرسائل دفترا كانت المصالح المختصة تثبت لها فيه قيمة التعويضات التي كانت تتقاضاها، ومضت تقلب صفحاته وهي تتأسف لهزالة ما كانت تتقاضاه: كنت بعد أسر زوجي أتسلم أجرا لم يكن يتعدى في البداية 850 درهما إلا بقليل، وفي ماي 1989 أصبح هذا التعويض حوالي 900 درهم، وفي نونبر 1989 أصبح 940 درهما، وفي يوليوز 1991 أصبحت أتقاضى 1245 درهما، وفي أبريل 1998 أصبح يصلني مبلغ 1450 درهما، وقبل موته بأيام تسلمت حوالي 2000 درهم، ثم انقطع عني الراتب ولم أعد أتلقى ولو سنتيما واحدا. وهي تستعيد شريط الأحزان وتحاول أن تشرح كيف كانت تعيش بهذا الفتات، حارت بين أن تعبر عن حزنها العميق لأنها لم تلد أطفالا، والبنت الوحيدة التي رزقتها ماتت في صغرها، وبين أن تعلن سعادتها لأنها لو ترك الشهيد أولادا لكانت معاناتها أضعافا مضاعفة لأنها لن تطيق أن ترى فلذات كبدها تتقاذفها الأزمات والكروب. ربيعة تعاني كذلك من عدة أمراض، وقد خضعت سنة 1995 لعملية جراحية غير ناجحة على ظهرها، وكانت تخبر زوجها في رسائلها إليه عن وضعيتها الصحية، فيوصيها بالصبر ويتمنى لها الشفاء العاجل، ملفها الطبي منتفخ بالوثائق والكليشيهات والشواهد الطبية، وزادت عليها ركاما آخر من الرسائل والشكاوى التي بعثت بها إلى كل الجهات التي ترى أن لها علاقة بملفها من قريب أو بعيد، لكنها لم تجن من كل ذلك إلا التعب وضياع الوقت والجهد في مباني الإدارات المختلفة. أتعبني المسؤولون بإعداد الملفات وجمع الوثائق دون أية نتيجة، تؤكد ربيعة، تهت بين المكاتب الرسمية ولم أجد مساعدة من أي مسؤول وهاأنذا مازلت أنتظر، وتضيف: راسلت عامل إقليمالصويرة وعامل خريبكة وراسلت المفتشية العامة للقوات المساعدة بالرباط ووزير الداخلية وهيآت أخرى دون نتيجة تذكر، طرقت كل الأبواب ووجدتها موصدة في وجهي... هيأة واحدة فقط أجابتني، لكن بالقول إن قضيتي لا تدخل ضمن اختصاصها، وهي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان. وتسترسل في أسى وأسف: ذهبت إلى عمالة خريبكة لأقابل السيد العامل ولم يسمح لي أفراد القوات المساعدة بذلك ومنعوني حتى من الصعود في الدرج الذي يؤدي إلى مكتبه. لا أطلب غير مأوى ومأكل أرملة الشهيد لحمادي لا تطلب غير مسكن يسترها ومورد عيش تقتات منه، وتؤكد: لو كنت أطيق العمل لما التفتت أصلا إلى هذه المطالب، لقد ضحيت وضحى زوجي، وفي الأخير كان جزائي الجفاء والتجاهل. توقفت ربيعة عن أداء ثمن الكراء لعجزها عن ذلك، أما ثمن الماء والكهرباء فيؤديه عنها المحسنون. قصتها مع الإهمال، كما حكتها لالتجديد، لم تسلم فيها من التجاهل حتى في تلك اللحظات المِثرة التي نودي عليها فيها لتتسلم جثة زوجها: عندما حضرت إلى مراكش من أجل تسلم جثته عانيت من الإهمال والتهميش، ولم أجد حتى من يدلني أين هو، وكان المسؤولون هناك يحولون بيني وبين الصحافة وينصحونني بعدم التصريح بأي شيء في الموضوع، وجردونا من بطائقنا الوطنية أنا وكل من رافقني إلى المستشفى، ومنعوني حتى من الحديث مع زميله الذي عاد معه من تندوف، باختصار: زوجي مات مثل فأر ولا أحد أخذ بعين الاعتبار تضحياته. وعن شبح الكراء الذي يرعبها نهاية كل شهر تحكي الأرملة المهملة: عندما أسمع أن صاحب البيت الذي أكتريه سيحضر لمطالبتي بثمن الكراء أرتعد من الخوف، لأن الجواب الوحيد الذي أعده له في نهاية كل شهر هو ما عندي والو وفي المرة الأخيرة قلت له إنه من حقه أن يشكوني إلى القضاء فأجابني: دعيتك لله، فهل هكذا تجازي الدولة أبطالها؟ وهل هذا ما يستحق منا الشهيد محمد لحمادي؟ هذا ما كتبه أحد رفاق الشهيد لحمادي بعد وفاته والمنشور بالأحداث المغربية 28 يناير 2005 "وكالعادة كلما تعلق الأمر بمن ضحوا من أجل الوطن أذاعت قناتانا التلفزيتان الوطنيتان النبأ بإيجاز كبير" "سأخبركم أيها المسؤولون الجزائريون رغم أنكم أعدائي وأعداء وطني بما سيفرحكم ولو أنه يؤلمني ويمزق قلبي ويجعلني أشعر بالبهذلة لتطمئن قلوبكم فنبض المغاربة خافت جدا لا يسمع ولتطب نفوسكم فلم ولن تحرك وفاة ضحيتكم الشهيد لحمادي أحمد قلب أحد، ولتقر عيونكم فبرلماننا لن ينعقد بسبب جريمتكم... ومجلس حكومتنا لن ينعقد... والجمعيات والمنظمات المغربية تفضل الخروج للتظاهر تضامنا مع الشعوب الأخرى أما مع أبناء جلدتها فشيء لم تتعود عليه، لذا فلن تروا أحدا متظاهرا أو معتصما أمام سفارتكم أو قنصلياتكم" عبد الله أماني، أحد رفاق الشهيد لحمادي في الأسر