وعدت حكومة إدريس جطو بعد تعيينها من طرف جلالة الملك وأثناء تقديم للتصريح الحكومي أمام البرلمان بالسعي نحو بناء علاقة تشاور وتعاون وتواصل وحوارمع المؤسسة التشريعية، غير أن الايام التي تلت ذلك التصريح كشفت بالملموس نكث الحكومة لوعدها وسعيها لابتلاع اختصاصات المؤسسة المذكورة على حد تعبير المعارضة وكثير من المتابعين للشأن البرلماني. وقد تجلى ذلك بوضوح في مناقشة مشروع قانون المالية عند بداية كل سنة تشريعية من حيث رفض الحكومة لمقترحات المعارضة وتعديلاتها ولجوئها للفصل 51 من الدستور عند العجز عن الإقناع بما تطرحه هي، وإثبات عدم وجاهة ما تطرحه المعارضة، وقد اكتفت هذه الأخيرة في مواجهتها لهذا الوضع بالتعبير عن استياءها وأسفها لعدم توفر التوازن بين المؤسسة التشريعية والجهاز التنفيذي، غير أن الكيل طفح بالمعارضة هذه السنة إذ عبر فريق العدالة والتنمية في معمعة نقاش مشروع قانون مالية2006 عن رفضه للمنهجية والطريقة السريعة التي تتم بها دارسة المشروع المذكور على الرغم من أهميته وحساسيته، وأصدر بلاغا يؤكد فيه أن مسلسل مناقشة مشروع قانون المالية قد عرف مسارا غير عادي، انعكس بشكل سلبي على مستوى المناقشة والتواصل. ومما زاد الطين بلة ان المشكلة لم تنحصر في السرعة المفرطة في النقاش ومايلي ذلك من غياب التدقيق والمحاسبة والتقييم، ومايرافقه من عدم إحضار الحكومة الوثائق المرافقة لقانون المالية في وقت معقول يسمح للنواب بالأطلاع المبكر والتهييئ بالشكل المطلوب للمناقشة في اللجان الفرعية ، ومما زاد الطين بلة أن بعض الوزراء تغيبوا في الجلسة العامة في مناقشة ميزانيات القطاعات التي يشرفون عليها لسماع ملاحظات الفرق والإجابة على تساؤلاتها، بحيث لم يحضر في بداية الجلسة العامة المخصصة للمصادقة على مشروع قانون سيتحكم في الدورة الاقتصادية للبلاد على مدار سنة كاملة يوم الثلاثاء 15/11/2005 إلا وزيرالثقافة، الأمر الذي جعل فريق العدالة والتنمية يعلن انسحابه من الجلسة ليتضامن معه بعد ذلك الفريق الدستوري والديمقراطي، معتبرين انسحابهم بمثابة رسالة واضحة تؤكد ضرورة قيام علاقة احترام وتعاون بين الحكومة والبرلمان. وإدانة لانعدام التواصل والاحترام المتبادل بين الحكومة والمؤسسة التشريعية. ولم يكتف نواب الفريقين بالانسحاب بل اعتصموا ببهو المجلس، احتجاجا منهم على تهميش المعارضة والاستخفاف بدورها الرقابي على العمل الحكومي وهو ماعكس رغبة المعارضة في إثبات ذاتها ذلك أن بلاغا للفريقين بالمناسبة أكد على أنهما عازمان على اتخاذ التدابير والإجراءات التي من شأنها أن ترد الاعتبار للمؤسسة التشريعية وتمكن السادة النواب من أداء مهامهم الدستورية بشكل محترم وقد ذكر البلاغ نفسه المهتمين بالشأن النيابي بعدم تفاعل الحكومة مع التعديلات التي تتقدم بها فرق المعارضة وضعف استجابة الوزراء لدعواتها للمناقشة، معتبرا تجاوزا وصفه بالخطير يحاول الإجهاز على الأعراف والتقاليد البرلمانية المعمول بها، ورغبة الحكومة في إضعاف المؤسسة التشريعية والقيام بدور المشرع والمنفذ في آن واحد، وبالتالي إضعاف الدور الدستوري للمؤسسة المذكورة وترسيخ تقاليد سلبية في مجال العلاقة بين الجهازين التشريعي والتنفيذي. والمثير للإنتباه أن الانتقادات الموجه للمشروع وللطريقة التي يناقش بها المذكورلم تقتصر على فرق المعارضة بل كانت واضحة في خطاب نواب في فرق محسوبة على الأغلبية من قبيل مداخلة مشيشي العلمي من فريق التحالف الاشتراكي في مناقشة ميزانية وزارة النقل والتجهيز حيث قال إذا لم تحضر الحكومة ملفاتها في الوقت المناسب يجب أن نرفض مناقشتها، نحن بطريقة عملنا هذه لا نشتغل بوصفنا نواباً للشعب المغربي، ولا نقوم بمسؤولياتنا بالشكل المطلوب. قول سانده نواب آخرون من الأغلبية مؤكدين على أن الجهاز التشريعي يجب أن يكون أقوى من الجهاز التنفيذي وان الأول لاينبغي له أن يتساهل في القواعد الضابطة لعملية مناقشة قانون المالية من حيث استنفاذ كامل المدة المخصصة قانونيا لمدارسته، وآجال تقديم الملفات والوثائق، إلا أنهم لايستطيعون الصدع بالحقيقة في وجه فرقهم علانية، ويتجهون على العكس من ذلك للمصادقة على ما كانوا ينتقدونه في الهامش بل حتى في المداخلات كما هو الحال بالنسبة للفريق الاستقلالي الذي يستحيل على متابع مداخلته العامة بشأن المشروع المذكور وهو لايعرف موقع الفريق في الخريطة السياسية، أن يصدق أنه صوت بعد تلك الانتقادات الحادة لصالح مشروع قانون مالية 2006, أما إذا اطلع على الجريدة الناطقة باسم حزب الفريق فإنه سيستغرب أكثر وهي التي نشرت مقالا يعتبر عزم الدولة في المشروع المذكور على التخلي عن موازنة أسعار المواد الغذائية الأساسية وكذا المواد النفطية من خلال إلغاء صندوق المقاصة نهاية السنة القادمة إجراء سيكتوي المستهلك المغربي معه بنار الزيادات التي ستعرفها أسعار الدقيق والسكر والمواد النفطية، بما فيها غاز البوطان، ومختلف الخدمات المرتبطة بهذه المواد كالنقل بمختلف أنواعه وانعكاس ذلك على مختلف أسعار المواد والمنتوجات، خاصة بالنسبة للمناطق البعيدة من مصادر الانتاج. ويضيف مشروع القانون المالي لسنة 2006 حسب المقال نفسه تدابير أخرى استهدفت القدرة الشرائية للمواطنين المعوزين تتمثل أساسا في إخضاع مادتي السكر والزبدة للضريبة بعدما كانت معفاة حفاظا على الحد الأدنى من مستوى المعيشة بالنسبة للفئات الضعيفة. وهو أمر سينعكس بصفة مباشرة على وتيرة الأسعار ويؤثر بشكل ملحوظ على القدرة الشرائية للأغلبية الساحقة من المواطنين. وما سبق يكشف حسب رأي عدد من المحللين عن هشاشة التركيبة الحكومية ويفضح حقيقة الانسجام فيما بينها، ويؤكد أن الحكومة في سعيها لمناقشة قانون المالية بسرعة فائقة كانت تحاول تفادي الأسئلة الحرجة التي كانت المناقشة العميقة ستولدها من قبيل تقييم سياسة الخوصصة التي لم تبق للحكومة ما تخوصصه مما اضطرها بشكل ملتوي لتضريبات عديدة، والمطالبة بالكشف عن أسباب تعثر عملية استرجاع الأموال العامة المختلسة والتي تفوق 40 مليار درهم. وغيرها من الأسئلة، لكن يبدو أن السؤال الذي يكتسي أولوية بعد مصادقة مجلس النواب على المشروع المذكور بأغلبية 71 ومعارضة 32 هو هل سيتم التفكير عمليا في التأسيس لعلاقة متوزانة بين المؤسسة التشريعية والحكومة من خلال إعادة النظر في العوائق القانونية التي تحول دون قيام المعارضة بدور رقابي حقيقي من خلال تقديم طعن دستوري أو رفع ملتمس رقابة أو ما إلى ذلك من الأشكال الرقابية التي تعطي للمؤسسة مصداقيتها وللفعل النيابي مدلوله الفعلي، قد لايتحقق هذا في ماتبقى من الولاية التشريعية الحالية، غير أنه ينبغي العمل على تحقيقه في الولاية التشريعية المقبلة في أفق بناء حياة سياسية ونيابية حقيقية تعيد للمواطنين شعور الاحترام والثقة في أهمية دور المؤسسة التشريعية، وأنها ليست مجرد غرفة تسجيل.