الحق أني مندهش لكون النهضة العلمية الحديثة لم تحدث في الشرق الإسلامي رغم امتلاكنا مقوماتها الواقعية، والعجيب أن أي متأمل للقرآن بعقل وحياد سيجده كتابا أعلى من قيمة العقل والبرهان، وهل النهضة العلمية إلا عقل وبرهان؟ وباختصار لقد بدأت النهضة العلمية في أوربا باعتماد المنهج التجريبي، فلم تعد هناك مسلمات يركن إليها إلا بعد فحصها وتمحيصها، ولم يعد ممكنا أن نفترض حلا سحريا من قبيل أن شرب الماء على الريق يشفي من السرطان، يمكنك أن تفترض ما تشاء، ولكن يجب عليك إثبات هذه الفرضية بطريقة علمية صارمة لا تجعل هناك احتمالا للخطأ. حينما نسمع عن مركبة فضائية تدور حول أقمار المشترى، فيجب ألا نعتبرها خارقة لأنها ليست كذلك، وإنما هي الطابق المائة من البناء الشاهق الذي تم إنشاؤه طابقا بعد طابق منذ خمسة قرون، وككل بناء لا بد له من أساس يحمله، وقد كان هذا الأساس هو المنهج التجريبي الذي حرر العقل البشري من الخرافة وبشكل ما نستطيع أن نزعم أننا مدينون لفلاسفة ومفكرين مثل (كانت وهيجل) بذلك الكمبيوتر الذي أكتب عليه الآن. كل هذا جميل ولكن ما علاقة ذلك بمقال يتحدث عن الصوفية؟ القرآن أعلى من قيمة العقل والبرهان، آيات لا حصر لها تحمل معنى (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، ولقد التقط الفقهاء الفكرة فأسسوا مذاهب تقوم على البرهان وتسبق المنطق العلمي الأوربي بقرون كثيرة، ولكن علماء هذه العصور لم يلتقطوا الفكرة بالدرجة الكافية رغم أنها كانت في متناول أيديهم فبقيت النهضة العلمية التجريبية رهينة محاولات فردية لعلماء مسلمين أفذاذ، ولكنها لم تصبغ المجتمع بأسره ولم تؤثر على حياة أفراده كما حدث هناك. ولكن ما علاقة هذا أيضا بالصوفية؟ العلاقة أن العقل الذي أنشأ المذهب الفقهي الصارم المعتمد على الدليل والبرهان في الشرق، أو ذلك الذي أنشأ النهضة العلمية في أوربا، هذا العقل لم يكن كافيا أبدا لإشباع ملكات أخرى في النفس الإنسانية، ثمة مسافة للروح لا يملك العقل والبرهان (فقهيا أو علميا) أن يملأها، نحن بحاجة إلى ارتياد مملكة الروح أحيانا والتخفف من منطق العقل التجريبي بقيوده الصارمة. وهنا كان مكان وزمان الصوفية. والخلاف بين الفقهاء والصوفية قديم جدا، وبينما استطاعت الطبيعة المصرية السمحة أن تفسح مكانا للكل بحكم عقلية الزراعة التي تقوم على المشاركة، ولم يحدث تعارض يذكر بين علماء الأزهر وشيوخ الصوفية، فإن ما حدث في (نجد) بعد غلبة الحركة الوهابية لأسباب سياسية كان صداما سافرا شهدت طرفا منه أثناء إقامتي بالمدينةالمنورة، اتهم العلماء الصوفية بالشرك، ورد هؤلاء الاتهام بأنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أيهما عادلا في خصومته ودعواه، فكثير من أفعال الصوفية يكون وراءها العشق، ولا يوجد عاقل واحد يؤاخذ عاشقا ويتمسك بالمعنى الحرفي للكلام المبطن للأسرار، فهو في حال العشق أقرب لطفل، كما أن اتهام الصوفية للوهابيين بأنهم لا يحبون النبي اتهام خال من الذوق والمنطق والعقل. والصدام وصل أحيانا لدرجة عناد الأطفال، وبدا لي مضحكا في بعض الأوقات، فالصوفية يصرون على لقب (سيدنا) قبل ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والعلماء يتجنبون هذا اللفظ بعناد الأطفال فيقولون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف مضحك بقدر ما هو محزن، فالنبي صلى الله عليه وسلم عند المسلم المؤمن هو سيده وسيد أبيه وسيد جده وسيد البشرية جمعاء، وتحويل هذا لخلاف يعكس خللا في عقلية الطرفين. على أن الخلاف بين الفقهاء والصوفية يبدو أحيانا محتما بحكم التباين بينهما، فهنا سطوة العقل وهناك مملكة الروح، هنا المنطق وهناك الذوق، هنا الجد وهناك الاستراحة، وطبيعي أن تستهوي الصوفية الجمهور، كما كان طبيعيا أن تستهوي كل من له ملكة فنية، فالروح والذوق والاستراحة أقرب إلى النفس من العقل والمنطق والجد، ولكن الخطأ الأكبر هو لحظة التحول من فكرة استراحة إلى أسلوب حياة دائم وصارم، وليس من مصلحة أحد الانتقاص من التراث الصوفي الهائل المتراكم عبر السنين، ومحاولة هدمه وتخريبه على يد أعدائه وعلى يد المدعين أيضا جريمة، فهذا التراث ملك للبشرية جمعاء، ولكن يجب النظر إليه من وجهة نظري على أنه فن وشعر وتراث لا دين وحياة واعتقاد. ثمة أشياء جميلة جدا في الطرق الصوفية، هناك تربية حقيقة على يد شيخ لمريده، وتلك العلاقة الفردية يثبت دائما أنها الأنفع والأبقى، نحن بحاجة إلى تنمية ملكات الروح والوجدان ومغالبة الشح الإنساني والتكالب الدنيوي، تقتضي الأمانة العلمية أن نثبت ذلك للصوفية، ولكن ثمة أشياء في الطرق الصوفية لا يمكن للعقل أن يقبلها، بالذات عقل كرمه الله تعالى أيما تكريم وطالبه القرآن الكريم بطلب البرهان قبل قبول أية قضية. مثلا تلك المبالغة في منح الأولياء والمشايخ كرامات تتعدى حياتهم إلى موتهم، فليكن فلان وليا، هذا من حسن حظه بكل تأكيد وهنيئا له ما أعده ربه للصالحين، إن كان حقا كذلك، والعاقل من يبحث عن دعوة صالحة من ولي، ولا يستقيم حال مجتمع لا يعز فيه أهل الطاعة ولا يذل فيه أهل المعصية، كل هذا جميل ومفهوم دون صعوبة، وحب الصالحين من الإيمان، ولكن أن تزعم تأثيرا للولي بعد موته عبر القرون بحجة أن الروح لا سلطان للزمان عليها، فذلك شئ يحتاج بالتأكيد إلى دليل من الدين نفسه. في قلب مسجد السيد البدوي توجد لوحة تقشعر لها الأبدان، تزعم على لسان الولي قوله أنه يرعى السمك في المحيط والطير في الهواء، فكيف يعجز عن حماية من يزوره يوم مولده؟ وبصرف النظر عن الافتعال الواضح في الكلام، فواضح أن من كتب هذا الكلام تاجر يهمه رواج بضاعته بتدفق الأتباع على المدينة وقت المولد أو كتب هذا مخبول. ليس السيد البدوي مسؤولا عن هذا الهراء، ولو كان قالها (ولا أعتقد ذلك)، فهذا القول شرك صريح كائنا من قاله، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف الغيب وليس له من الأمر شئ ولا يعرف إلا ما علمه ربه. والمدهش حقا هو تلك القابلية للتصديق عند البعض، ردود فعل بعض الصوفية كانت عجيبة، تهيبوا وقالوا هناك أسرار فوق مستوى العقل، ولعله قالها ويقصد معنى معينا فاسكت أفضل لك. ولم أسكت ولا أنوي أن أسكت، لأن السكوت هنا خيانة للعقل والبرهان وللقرآن نفسه، ومسألة الأسرار التي يعتنقها الصوفية تحمل رائحة غير مريحة من روائح الباطنية تسربت من عصور الظلام، العقل السليم لا يتصور أن هناك أسرارا يختص بها البعض دون البعض، فمبادئ الدين يجب أن تكون واضحة للكل مناسبا للجميع على اختلاف عقولهم وأفكارهم، وفكرة احتكار طائفة أو شيخ لبعض الأسرار تتعارض مع أسس الدين ذاته، فالله تعالى أعلن على الملأ أن النعمة قد تمت والدين قد اكتمل، فلا معنى أن يأتي أحد كائنا من كان زاعما اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالملإ الأعلى، ويطالبنا بالتهيب والتصديق. أذكر أني كنت يوما عند شيخ طريقة مشهور جدا، وشخصيا كنت ومازلت أحبه فقد كانت له مدائح في حب النبي صلى الله عليه وسلم بديعة حقا، ولكن ما حدث كان مدهشا، فقد اجتمع عنده عدد محدود قبل توافد أتباعه، وفجأة وجدته قد بسط يده وقال بلهجته الصعيدية المحببة للنفس (اللي يحب يخش الجنة يا ولاد يضع يده على يدي الآن) وسارع الكل وأولهم أنا إلى وضع يده على يديه، ولكني لم أستطع برغم حبي له أن أمنع نفسي من السؤال هل يستطيع أحد أن يضمن لغيره الجنة وبهذه الطريقة؟ ثمة رائحة مريبة، رائحة تتعارض مع العقل والبرهان في القرآن الكريم، رائحة غير مريحة على الإطلاق، وبرغم أنه من مصلحتي أن يكون كلامه صحيحا فإن عقلي لا يشعر بالارتياح. ليس بهذه الطريقة ، أليس كذلك؟ لن تستطيع أن تجادل صوفيا بسهولة، سيقول لك فورا (من ذاق عرف) ومعنى سؤالك أنك لم تذق وإلا لما سألت، وبالتالي فأنت لم تعرف. هكذا ينتهي الحوار قبل أن يبدأ، وسيقول لك أن هناك أسرارا غامضة لا تعرفها، أسرارا اختص الله بها الشيخ الذي له اتصال مباشر مع الملإ الأعلى، هناك الكثير جدا من البخور، وأنا أحب رائحته حينما لا يحجب الأكسجين أما البخور الكثيف فيجعلني أختنق، ونحن بحاجة ماسة إلى الصوفية، الصوفية التي تكرس سلطان الروح وتعادل سطوة العقل، وتعيد التوازن للنفس الإنسانية، لكننا نريدها خالصة من الشوائب، نحن نحب التراث الصوفي ونجله ونحترمه، لكننا أيضا نريد منه أن يحترم عقولنا وإلا يجعلنا في موقف الاختيار بين العقل والروح لأننا بحاجة لكليهما. باختصار بعض البخور وليس الكثير منه، وبعبارة أخرى نريدها استراحة وليس غيبوبة دائمة.