لقد خلق الله الشهور والأعوام والليالي والأيام، وجعلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، تمضي سريعا وتنقضي جميعا، فيرى الإنسان دورات الأفلاك تتصرم، وسنوات الأعمار تنقضي، ويرى أفلاكا سابحة، وكواكب سيارة وثابتة، الكل يجري لأجل مسمى، وهذه سنة الله في خلقه وأكوانه، وأهل الدنيا في هذا كأنهم بين أحلام نائم، وخيال زائل، إذا كان هذا هو الحال الذي لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح، فجدير بنا ونحن في شهر المراجعة والإنابة، أن نقف موقف مراجعة، بل وقفة توديع ومحاسبة لشهر هذا حاله، والذي يستعد للرحيل، ومن يدري هل يدركه رمضان السنة المقبلة. وقفة مراجعة: تدعو إلى استعراض سجل هذا الشهر الكريم، وتقويم الجهود والأعمال، ومراجعة الحساب، وتقليب الصفحات ليعرف المسلم واقعه وينظر خطوات مستقبله. وقفة محاسبة:يراجع فيه الذين أسرفوا على أنفسهم مواطن إسرافهم، فصاحب الصيام الحق، لا يطول أمد غفلته. وقفة توديع ومحاسبة:يدفع إليه و يدعو ما يُرى من أحوال بعض المسلمين، فالأحوال لديهم في هذا الشهر الكريم تتحسن، والأعمال الصالحة عندهم تزداد، ولكن ما أن يبدأ الشهر الكريم، تتقوض خيامه، ويتناقص هلاله،حتى ترى هذا الغافل بعد ليلة السابع والعشرين، أو بعد حضور ختم القرءان العظيم، وقد بدأ العمل عنده يتناقص، ودب في سلوكه التقصير والفتور، فتنحسر صفوف المصلين، ويقل إحسان المحسنين، وكأن القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، وكأن الله لا يعبد إلا في شهر رمضان. ولا بد لنا نحن المسلمين أن نعلم أن في الحياة نوازع شهوة وهوى، وفيها دوافع غضب وانتقام، وفي الدنيا تقلب بين النعماء والضراء، وفيها نزوع عن الأوطان، ومفارقة الأهل والخلان، وفيها الكثير والكثيرُ من المتاعب والمصاعب، لكل ذلك يأتي شهر رمضان دروسا لطبيعة هذه الحياة. إنه شهر كامل متتابع يتكرر كل عام، من أجل يقظة الوازع، والتحكم في النفس ومراقبة العمل. وفي شهر رمضان تتنوع العبادات، وتكثر فرص الخيرات، وتهب نسمات النفحات، من قيام ليل في تراويح، وقراءة قرآن، وأذكار ومناجاة، وذكر ودعاء، واجتهاد في المواساة، والإحسان والبذل والعطاء، وتحري ليلة القدر، وإخراج صدقة الفطر، وعظيم الرجاء والاستبشار بالعفو من الكريم المنان، ويزداد العمل إذا دخلت العشر في خواتيم الشهر من إحياء الليل وإيقاظ الأهل وشد المآزر.