الأمر الطبيعي خلال رمضان أن نرى أفرادا يتوبون إلى ربهم تعالى، فيلازمون المساجد تلاوة للقرآن وشهودا للصلوات، أو ينتهون عن بعض العادات السيئة، لكن أن يتطهر دوار بساكنته ويتعفف جماعيا عن استغلال المال العام، المتمثل في استغلال مساحة أراضي الجموع، الذي تقدر بأكثر من أربعين هكتارا، لتصبح مشاعا جماعيا للرعي بين سكان الدوار، فتلكم بركة من بركات شهر الصيام. ما الحدث؟ يروي الراوي أن: شباب دوار كُومَّة بقبيلة مصمودة نواحي وزان، اتفقت كلمتهم على التطهر خلال رمضان عن الاستحواذ على أراضي الجموع المستغلة بطريقة غير شرعية، فقاموا باقتلاع الأشجار والمزروعات الموجودة بالأراضي المستغلة، حتى تنتزع من قلوب أصحابها، فحصلت في البداية مشادات، لكن لما عم القرار الجميع دون تمييز اتحدت كلمتهم، فوقع أصحاب الأشجار المقتلعة على التزام بعدم المطالبة مستقبلا بهذه الأشجار، أما الآخرون الذين استغلوا مساحة الأرض لبناء منازل وبراريكلمدة تفوق ثلاثين سنة، فتم الاتفاق معهم على تعويضهم عن مساحة الأرض مع الاحتفاظ بمبانيهم. ويضيف الراوي أن السكان من أهل الجبل، أي قمة الجبل حيث اشتق اسم الدوار، هم في أشد الحاجة إلى الأرض وما عليها من أشجار الزيتون والتين والإجاص وغيرها، وقد كان هذا الاستغلال مصدر مشاكل بين السكان، فقصد السكان السلطة لحل المشكل، فاقترحت عليهم تعيين مندوبين عنهم، ولما تداولوا الأمر بينهم، رأوا أن اقتراح السلطة يطيل أمد المشكل، فقام الشباب بما قاموا به، وعندها استحسنت السلطة مبادرة الشباب، فاتفق السكان على تنظيم حفلة جماعية بعد الحدث. المستفاد الواقعة الحقيقية ليست من نسج الخيال، ولذا يحق لنا أن نبني عليها استنتاجات، علها تنفعنا في تنمية بلادنا، الذي نخر اقتصاده مهربو المال العام ومستغلو مؤسساته للاغتناء الحرام، ومما يستفاد من الواقعة أن: -الدافع التربوي لرمضان وسيلة فعالة يجب توظيفها لتشجيع النفوس على الإقلاع عن الحرام، ومحاربة الأهواء، إذ تم اقتلاع حب أشجار غرست في النفوس لأكثر من ثلاثين سنة. - الشباب هو قائد المبادرة والمنخرط فيها، وهو يستلهم مبادرته من قوله تعالى:(إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)، خلافا لأولئك الشباب الشارد عن واقعه والمستلب بأضواء الموضة. - جمع الكلمة هو أسلوب التطهير والتطهر من الحرام، إذ لم ينتظر السكان تدخل السلطة للإقلاع عن استغلال المال العام، مما يؤكد أن دورها الحقيقي هو المساعدة على الإصلاح، وليس دائما الهروب إلى الأمام بتعليق جميع المشاكل عليها. - الفقر الرئيسي هو فقر الإيمان في القلوب أكثر مما هو فقر مال الجيوب، فالمبادرة توبة عمرية حاربت شح النفوس وتكالبها على مغريات الدنيا الفانية، رغم أن الواقع لا يعترف بأي قيمة للأفراد إلا برصيد الأبناك. المأمول المأمول أن يتطهر أيضا ناهبو المال العام من استغلال ممتلكات الوطن من هاتف وكهرباء وسيارات .. فما ينهبه فرد واحد من هؤلاء كفيل بسعادة أقوام ودواوير، بل الوطن كله.ولكن دوار كُومَّةأبى إلا أن يعطي النموذج للشباب من أجل استنساخ التجربة في النفوس والأحياْء ثم العمل على تعميم التجربة لتشمل الدوائر الكبرى، ومسيرة الإصلاح تبدأ بالخطوة الأولى وفق رأي ونفس جماعي، والخير باق في الأمة إلى يوم القيامة.