بعيدا عن المعالجة الإعلامية لتقرير ميليس التي تتسم بالإثارة والتصعيد والتسرع والتجزيء لنصه ومفرداته, نكتفي بتحليل ما بين أيدينا من معلومات. تساؤلات حول التقرير على الرغم من أننا كنا دائما ندعو إلى انتظار صدور التقرير قبل الإدلاء بأي تحليل حوله, فإنه وللحقيقة لم يكن التقرير على المستوى المطلوب والمنتظر في كثير من النواحي، وإن ساهم في ربط الوقائع بصورة واضحة. لكن الغموض والالتباس والهلامية حاضرة بقوة في التقرير، بالإضافة إلى تساؤلات كثيرة يمكن طرحها على الأقل بعد متابعة ترجمة التقرير التي أذيعت مباشرة على قناة الجزيرة وبعد الاطلاع على نقاط أخرى إضافية. ومن هذه التساؤلات: - لماذا تم نشر التقرير الآن وفي هذه المرحلة طالما أن المحقق ميليس طالب بتمديد مهلة مهمته ووافق كوفي أنان في رسالة إلى مجلس الأمن بعد تسلمه التقرير على تمديد تفويض اللجنة إلى 15 ديسمبر/كانون الأول 2005 وفقا للفقرة الثامنة من القرار الدولي 1595/2005؟ - لماذا كانت هناك نسختان من التقرير: نسخة وزعت بداية على الصحفيين وجاءت خالية من الأسماء الصريحة والواضحة, ونسخة أخرى ظهرت بعد ذلك عبر مكتب البعثة البريطانية في الأممالمتحدة؟ وأيهما الأصلية ولماذا حصل ذلك؟ وما الهدف منه؟ - لماذا وردت أسماء واضحة في التقرير الذي احتوى على الأسماء مثل آصف شوكت وماهر الأسد.. في حين أنه وفي نفس التقرير تم زج الفلسطينيين عبر ذكر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة دون ذكر اسم شخص فيها، حيث ذكر تقرير ميليس أن أشخاصا من جماعة جبريل في لبنان نسقوا مع مسؤولين لبنانيين وسوريين في التحضير للتفجير بشاحنة والذي أدى إلى مقتل الحريري؟ وهل لذلك علاقة بما يحصل مؤخرا في الملف الفلسطيني في لبنان؟ - لماذا لم يتم التعليق على موضوع الشاهد الذي بنيت على أقواله معظم نقاط التقرير الأساسية؟ وما تأثير أقواله المزعومة على موضوع التقرير؟ ولماذا ما زال التقرير الصادر يحتوي على روايات من أقواله طالما أنه تم إلقاء القبض عليه في فرنسا وأصبح متهما بتضليل التحقيق أو المشاركة في عملية الاغتيال؟ في محتوى التقرير يخلط كثيرون في معرفة مهمة لجنة التحقيق التي تقتضي تقديم "الوقائع" وليس "الحقائق" كما يظن الكثيرون خطأ، فهناك فرق كبير بين المصطلحين, والتقرير من جهته قدم إلى حد كبير "الوقائع" بشكل مرتبط ومتماسك, إلا أنه وللأسف -وهذه هي النقطة المهمة- لم يرفق "الوقائع" بأدلة قاطعة. ولهذا فقد جاء التقرير في بعض أجزائه إنشائيا وينطوي على تعابير غير واضحة وضبابية وهلامية ولا يمكن الحكم من خلالها "قضائيا أو جنائيا" على المتهم بتهم أو إصدار مذكرة اتهام في المحكمة. ومن هذه المصطلحات التي وردت في عدد من المقاطع المهمة والمفصلية: - "رئيس المخابرات السورية في لبنان رستم غزالي ربما لعب دورا رئيسيا في اغتيال الحريري". - "اللواء عاصف شوكت صهر الرئيس السوري بشار الأسد ربما لعب دورا بارزا في الاغتيال". - "لا يمكن تصور أن قرار اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ما كان ممكنا اتخاذه من دون موافقة مسؤولين رفيعي المستوى في أجهزة الأمن السورية". - "من الصعب تخيل تنفيذ سيناريو أو مخطط لعملية اغتيال بهذا التعقيد من دون علم المخابرات السورية التي لها نفوذ كبير في لبنان". - "الدافع المحتمل للاغتيال هو سياسي". - على الأرجح, ويمكن, كما يزعم الشاهد.. وغيرها، وكلها مصطلحات تنم عن عدم قطع صاحبها وغلبة الظن على ما يريد أن يقوله. والحقيقة أن التقرير لم يقدم شيئا جديدا للمتابعين كما لم يقدم شيئا دقيقا واضحا يمكن البناء عليه، فباستثناء بعض ما يتعلق بمسألة المكالمات الهاتفية التي يجب التحقق منها جيدا, فإن المعلومات الأساسية التي ذكرها كانت معروفة ومتداولة في الصحافة على نطاق كبير، أما المعلومات الجديدة والمهمة والمستحدثة فقد استندت إلى رواة مجهولين وشهود غير معلومين وليس هناك أسماء أو ما شابه، وهذا من شأنه إضعاف الحجة التي يسوقها التقرير ضد المتهمين. فإذا كان المهم هو حماية الشهود فلماذا لم يتم حمايتهم مثلا في بلد معين وتقديم تسهيلات لإقامتهم خارج لبنان في الفترة الراهنة على الأقل؟! إن مسألة وقضية كبرى قد تؤدي إلى خراب ودمار بلدين هما لبنان وسوريا وشن حرب جديدة في المنطقة لا يجوز لها أن تستند إلى روايات شهود مجهولين, مع كامل احترامنا وثقتنا باللجنة، ولكن لا شيء يضمن عدم استغلال ذلك لمآرب أميركا وفرنسا في المنطقة، ومن ثم عندما تظهر الحقيقة فلن يكون هناك فائدة لها, فالأمر مشابه لما حصل مع العراق في مسألة أسلحة الدمار الشامل, فقد دمروا البلد واحتلوه ومن ثم لم يجدوا شيئا، وبعد ذلك قالوا إنهم استندوا إلى معلومات استخباراتية خاطئة! ويجب أن لا ننسى حضور كولن باول في مجلس الأمن وقتها مدعوما بما قيل حينها إنها أدلة قطعية على تورط النظام العراقي مع القاعدة، ثم تم بث تسجيل صوتي لمكالمة هاتفية بالأسماء أمام العالم أجمع وقامت أميركا أيضا بتقديم صور ووثائق من بينها وثيقة استقدام العراق لليورانيوم من دولة أفريقية تبين فيما بعد أن المخابرات الأميركية كانت قد زورتها. ألا يمكن لذلك كله أن يتكرر الآن في مسألة اغتيال الحريري؟ ومن الذي يضمن عدم حصول ذلك؟! نحن هنا لا نتكلم عن مؤامرات وما شابه, نحن ننقل سوابق تاريخية حصلت حتى الأمس وتداعياتها لا تزال ماثلة أمام الجميع، وهي ستحصل من جديد أيضا وهي أكثر من أن تحصى، وليس مسألة العراق استثناء من ذلك ولا قضية التحقيق في مقتل الحريري. فيما توصل إليه التقرير صحيح أن الإعلام وأصحاب النوايا الاستباقية قد ذكروا أن التقرير قال بتورط أجهزة استخبارات وأشخاص سوريين مع القيادات اللبنانية في عملية اغتيال الحريري, إلا أن الظن -كما شرحنا سابقا- لا يكفي خاصة إذا لم يكن مدعوما بأدلة قاطعة، وهذا ما يعرفه ميليس جيدا، وهذا ما ذكره في تقريره حين قال في الملخص التنفيذي "التحقيق يحتاج إلى أشهر أو سنوات للحصول على أدلة قاطعة..", "لا يمكن معرفة القصة الكاملة ومن هم وراءها ومن الذي قتل الحريري بشكل مباشر هكذا بسهولة.. ولذلك فإن البراءة مازالت ممكنة..". ولهذه الأسباب أيضا فقد طالب ميليس بتمديد عمله في التحقيق لاستكماله, إذ شدد على أن التقرير يجب أن يستمر لفترة من الزمن وجزم بقوله "التحقيق ليس كاملا", وفي هذا إشارة واضحة إلى عدم التوصل إلى أشياء قاطعة، وهذا ما دفعنا إلى التساؤل سابقا أنه إذا كان ميليس يعرف أن تقريره غير مستكمل وأنه يحتاج إلى وقت أكثر "والأرجح أن تبين كذب شهادة زهير الصديق التي بني جزء كبير من التقرير عليها كما هو واضح قد نسف كل جهود ميليس السابقة، ولذلك فهو يحتاج إلى ردم الحفرة التي حصلت في تقريره"، كما أن أقوال الشهود قد لا تكون موثوقة، فلماذا إذا تم نشر التقرير؟ وهل كان له رأي في ذلك أم أن جهة ما فضلت نشره للاستفادة مما ورد فيه، طالما أن هناك فرصة للتفاوض ولعقد الصفقات أو لتوتير الأجواء في لبنان وسوريا وزيادة الضغط وتعميم التشنجات، علّ ذلك يثمر شيئا مفيدا في التحقيق للمرحلة المقبلة ويساعد على انكشاف الحقيقة؟ الحرب الاستباقية السياسية الثغرات الواردة في التقرير والنواقص والشوائب والظن الذي تحدثنا عنه لا يعتبر مشكلة أساسية إذا تم تدارك ذلك في المرحلة اللاحقة، طالما أن هناك وقتا كافيا لإصلاحه ولظهور الحقيقة. لكن المشكلة الأساسية والرئيسية هي وجود نوايا وأحكام مسبقة عند بعض الجهات المحلية اللبنانية والدولية خاصة أميركا وفرنسا. ومما لا يحتاج إلى بذل مجهود كبير للتذكير به هو أن الطرفين عقدا مشاورات، ليس فقط قبل عدة أيام من صدور التقرير بل منذ شهر أيضا، كما أعدا خطة مسبقة لاستصدار مشروعي قرار لفرض عقوبات على سوريا فيما يشبه "حربا وقائية سياسية ودبلوماسية". ولا شك في أن اعتماد الولاياتالمتحدة على هذا التقرير سيشكل أداة رابحة في يدها وهي لن تفوت فرصة كهذه أبدا. والمشكلة الأكبر هي أن اللبنانيين غارقون إلى الآن في تداعيات اغتيال الحريري لدرجة تجعلهم لا ينظرون أبعد من أنوفهم في الموضوع, فماذا لو تم التوصل إلى اتفاق بين سوريا وأميركا على عدة ملفات وحصلت الصفقة المزعومة؟ أين سيصبح الموقف اللبناني وأين ستصبح الحقيقة؟ وهل اللبنانيون عندها مستعدون لتحمل التداعيات اللاحقة لذلك؟ من أجل تفادي كل هذا يجب على اللبنانيين أن ينظروا إلى التطورات الإقليمية والدولية جيدا، وأن لا يعتقدوا أن لبنان جزيرة معزولة عن محيطه كما يجري التعامل في المسألة الآن. ومن مصلحة اللبنانيين أيضا ومن مصلحة الحقيقة حث الولاياتالمتحدة على عدم ربط موضوع مقتل الحريري بلائحة مطالب من سوريا تتعلق بالعراق أو بالوضع الداخلي فيها أو بمستقبل النظام، وإلا فسيتحول ميليس وتقريره حينها إلى بليكس آخر وستضيع الحقيقة في متاهات الحروب والتهديدات والصفقات. أما عما يذكر من تشكيل محكمة دولية لتولي المسألة, فعلى الرغم من أن الوقت ما زال مبكرا على تشكيلها لعدم اكتمال التحقيق كما ذكر ميليس الذي قال "إن الصورة الكاملة للاغتيال يمكن رسمها فقط من خلال تحقيق موسع وذي مصداقية يجري بطريقة مفتوحة وشفافة ترضي الدقة الدولية"، إلا أنه -وكما يبدو- قد يكون الاتجاه إلى تشكيل محكمة دولية خاصة أمرا محسوما لدى كثير من الأطراف التي يجب عليها حينها أن تعي خطورة الموقف بشكل أكثر مما عليه الآن، لأن إمكانية التدخل والاستغلال لهذه الورقة ستصبح أكبر وأكثر، وقد يتم التوسع في عمل لجنة التحقيق قبل ذلك لتشمل الأراضي السورية أيضا واستجواب الشهود في الخارج كما حصل مع الطلب من العلماء العراقيين. الحقيقة تخدم الجميع ويجب عدم استباقها ولا توظيفها ولا ربطها بأمور أخرى، وعندما يتم فهم ذلك فإن الجميع سيأخذون حقهم وإلا فإن كل شيء سينهار.