أعلن حزب حركة النهضة، أحد الأحزاب السياسية الأكثر نفوذا في العالم العربي وقوة رئيسية في بروز تونس كدولة ديمقراطية، مؤخرًا تحولاً تاريخيًا، فقد انتقل حزب حركة النهضة إلى أبعد من أصوله كحزب إسلامي واحتضن هوية جديدة تماما تتمثّل في كونه حزب الديمقراطيين المسلمين، إن الحركة التي ساهمت في تأسيسها سنة 1980 لم تعد حزبًا سياسيًا ولا حركة اجتماعية، لقد قطعت مع الأنشطة الثقافية والدينية وأصبحت تركّز فقط على السياسة. يعكس تطور حزب حركة النهضة توسّع المسار الاجتماعي والسياسي في تونس، وقد ظهر الحزب أولاً باعتباره حركة المقاومة الإسلامية وذلك ردًا على القمع الذي كان يمارسه النظام العلماني الاستبدادي الذي اضطهد حرية المواطنين الدينية وحقّهم في التعبير وتكوين الجمعيات، وعلى مدى عقود، منع الدكتاتوريون التونسيون كل أنواع الخطاب السياسي في البلاد، مما اضطر الحركات ذات الأهداف السياسية للعمل على وجه الحصر داخل المنظمات الاجتماعية والثقافية، لكن الثورة التي اندلعت بين سنتي 2010 و2011 أعلنت نهاية الحكم الاستبدادي، وفتحت المجال للمنافسة السياسية المفتوحة والحرة والنزيهة. إن الدستور الجديد في تونس، الذي صادق عليه أعضاء حزب حركة النهضة في البرلمان وساهموا في صياغته سنة 2014، يكرس الديمقراطية ويحمي الحريات السياسية والدينية، وبموجب الدستور الجديد، فإن حقوق التونسيين في ممارسة العبادة، والتعبير عن قناعاتهم ومعتقداتهم، وتبني الهوية العربية الإسلامية مضمونة، فحتى النهضة لم تعد بحاجة لتركيز طاقاتها على النضال من أجل هذه القضايا. ولذلك، فإن الحزب لم يعد يقبل تسمية "الإسلامية"، وهو المفهوم الذي شُوّه في السنوات الأخيرة من قبل المتطرفين، لوصف النهج الذي يعتمده، وفي هذه المرحلة الديمقراطية الجديدة في تاريخ تونس، لم يعد السؤال يتعلّق بالعلمانية مقابل الدين؛ فالدولة لم تعد تفرض العلمانية من خلال القمع، وبالتالي لم تعد بحاجة لحزب حركة النهضة أو أي حزب آخر لحماية أو للدفاع عن الدين باعتباره جزءًا أساسيًا من النشاط السياسي. وبطبيعة الحال، كمسلمين، لا تزال قيم الإسلام توجّه وتقود أعمالنا، ومع ذلك، لم نعد نعتبر أن المناقشات الإيديولوجية القديمة حول أسلمة أو علمنة المجتمع ضرورية أو حتى ذات صلة، ففي الوقت الراهن، التونسيون أقل قلقًا بشأن دور الدين مقارنة ببناء نظام حكم ديمقراطي وشمولي يلبي تطلعاتهم من أجل حياة أفضل، وتجدر الإشارة إلى أن حزب حركة النهضة، باعتباره الشريك الأصغر في الحكومة الائتلافية في تونس، يهدف إلى إيجاد حلول للمسائل التي تهم جميع مواطني البلاد والمقيمين فيها. تطور حزب حركة النهضة هو نتيجة 35 سنة من التقييم الذاتي المتواصل وأكثر من سنتين من التأمل المكثف والمناقشة على المستوى الشعبي، وخلال مؤتمر حزب حركة النهضة الذي عقد في شهر ماي، صوّت أكثر من 80% من الأعضاء لصالح هذا التحول الرسمي، الذي لا يمثل تغييرًا كبيرًا في المعتقدات التي يؤمن بها الحزب منذ فترة طويلة. وتجدر الإشارة إلى أن قيمنا كانت بالفعل تتماشى مع المثل الديمقراطية، والقناعات الأساسية التي لم تتغيّر. إن الذي تغير هو البيئة التي نعمل فيها؛ فتونس أصبحت أخيرًا ديمقراطية بدلاً من دكتاتورية وهذا يعني أن حزب حركة النهضة يمكن أن يكون في النهاية حزبًا سياسيًا يركز على جدول الأعمال العملي والرؤية الاقتصادية بدلاً من أن يكون حركة اجتماعية تكافح ضد القمع والدكتاتورية، وفي الوقت الذي يصارع فيه الشرق الأوسط عدم الاستقرار والعنف، الذي يصبح في كثير من الأحيان معقدًا جراء الصراعات التي تدور حول العلاقة السليمة بين الدين والسياسة، يجب أن يكون تطور حزب حركة النهضة بمثابة دليل على أن الإسلام هو في الواقع متوافق مع الديمقراطية وأن الحركات الإسلامية يمكن أن تلعب، دورًا بناءً وهامًا في تعزيز التحولات الديمقراطية الناجحة. المقاومة والنهضة أنشأتُ رفقة عبد الفتّاح مورو حركة الاتجاه الإسلامي التي أصبحت فيما بعد حزب حركة النهضة، في سنة 1970، وكنا من خريجي جامعة الزيتونة، وهي أول جامعة إسلامية في العالم، تأسست سنة 737 ميلادي وعززت لفترة طويلة رؤية الإسلام على أنه فعال ويستجيب لاحتياجات المجتمع المتغيرة، وقد تشكل منهجنا عن طريق علاقاتنا التي جمعتنا مع مجموعة متنوعة من المفكرين الإسلاميين الإصلاحيين، وفي وقت سابق، تأثرنا بالمفكرين في مصر وسوريا الذين كانوا على صلة بجماعة الإخوان المسلمين، مثل مؤسس الحركة المصري، حسن البنا، وزعيم الفرع السوري مصطفى السباعي. ولكن مع تطوّر حركة الاتجاه الإسلامي، تأثّرنا على نحو متزايد بالمفكرين في منطقة المغرب العربي، مثل الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي وأحد أكبر أساتذة جامعة الزيتونة، محمد الطاهر بن عاشور، الذي يعدّ كذلك أحد المؤسّسين للمنهج العقلاني في تفسير القرآن الكريم، الذي يؤكد على أهمية مقاصد الشريعة؛ لاسيّما أهدافها. في ذلك الوقت، شهدت تونس العديد من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية بسبب عدم رضا الشعب على النظام الاستبدادي الذي كان يحكم به الرئيس الحبيب بورقيبة وحملته الممنهجة على الحريات المدنية والسياسية، وكذلك بطء وتيرة النمو الاقتصادي، وانتشار الفساد، وتواصل عدم المساواة الاجتماعية، وقد برز هذا السخط خلال سلسلة الاضطرابات التي اندلعت بين سنتي 1976 و1978 والتي بلغت ذروتها خلال الإضراب العام الذي حدث في 26 يناير سنة 1978، وهو اليوم الذي أصبح يعرف في تونس بالخميس الأسود والذي قتل خلاله النظام العشرات من المتظاهرين، وأصاب مئات آخرين، وقبض على أكثر من 1000 شخص بتهمة التحريض على الفتنة. في ظل إجماع متنام حول الحاجة إلى إجراء إصلاحات ديمقراطية، استطاعت حركة الاتجاه الإسلامي توحيد التونسيين الذين عارضوا نظام بورقيبة والذين شعروا أنه تمّ إقصاؤهم من النظام السياسي لاسيّما بسبب قمع الدولة لحرية المعتقد، سواء في القطاع العام أو الخاص، وتجدر الإشارة إلى أن أعضاء حركة الاتجاه الإسلامي أقاموا مجموعات نقاش، ونشروا المجلات، ونظموا الطلاب في حرم الجامعة. وفي أبريل سنة 1981، وافق نظام بورقيبة على تسجيل الأحزاب السياسية الأخرى. وقد تقدّمت حركة الاتجاه الإسلامي بطلب تشكيل حزب يلتزم بالديمقراطية والتعددية السياسية، والتداول السلمي على السلطة والانتخابات الحرة والنزيهة التي تعدّ المصدر الوحيد للشرعية السياسية، وحماية العلوم الدينية المعتدلة وأشكال التحديث المؤيدة للحركة التي من شأنها أن تتلاءم مع قيم تونس وتراثها الثقافي، ولكن تم تجاهل هذا الطلب من قبل السلطات. في المقابل، وأمام المطالب التي تدعو إلى مزيد من الإصلاح، شنّ النظام حملة واسعة من الاعتقالات؛ حيث اعتقل حوالي 500 عضو من حركة الاتجاه الإسلامي، من بينهم أنا، وبين سنتي 1981 و1984، كنت مسجونًا جنبًا إلى جنب مع العديد من زملائي، وبعد وقت قصير من إطلاق سراحنا، أعيد اعتقال كثيرين منا، ووجّهت إليهم تهم تتعلّق بالتحريض على العنف و"السعي لتغيير طبيعة الدولة"، وقد صدر حكم في حقّ العديد من أعضاء حزب النهضة بالسجن مدى الحياة بعد محاكمات رمزية، في حين أن النظام واصل انحداره نحو مزيد من القمع والاستبداد. أشار صعود زين العابدين بن علي إلى الحكم بعد الإطاحة ببورقيبة خلال انقلاب سنة 1987، إلى انفتاح سياسي محتمل، ففي السنة الموالية، منح بن علي عفوًا لجميع المساجين السياسيين وأعلن عن بداية عهد جديد من الديمقراطية والتعددية، ومرّة أخرى سعت حركة الاتجاه الإسلامي للاعتراف به كحزب سياسي، عبر تغيير اسمها إلى حزب حركة النهضة، مع ذلك، تمّ مرة أخرى تجاهل هذا الطلب خاصة عندما عاد نظام بن علي إلى اعتماد السياسات القمعية التي كانت تُمارس في عهد بورقيبة، وبعد الانتخابات الوطنية التي انعقدت سنة 1989، والتي أسفرت عن فوز المرشحين المستقلين المرتبطين بحزب حركة النهضة بحوالي 13% من إجمالي أصوات الناخبين، ووفقًا لبعض المصادر، بحوالي 30% في بعض المناطق الحضرية الرئيسية، قرّر النظام تدمير الحزب. وقد ألقي القبض على عشرات الآلاف من أعضائه وتمّ وضعهم في السجون ومورس في حقّهم التعذيب، كما تمّ إصدار قائمة سوداء تنطوي على أسمائهم بهدف حرمانهم من فرص العمل والتعليم، فضلاً عن تعرّضهم لمضايقات من قبل الشرطة، وتجدر الإشارة إلى أن العديد من أعضاء الحزب، وأنا من بينهم، اضطررنا إلى العيش في المنفى. وعلى مدى العقدين الموالين، ضعفت تونس تحت القمع، وصارع حزب حركة النهضة من أجل البقاء على قيد الحياة كحركة سرية محظورة، وتجدر الإشارة إلى أن دجنبر سنة 2010 كان بمثابة نقطة التحول في الحياة السياسية، وذلك عندما أضرم بائع متجول تونسي شاب يدعى محمد البوعزيزي النار في نفسه أمام مقرّ الولاية احتجاجًا على المضايقات التي تعرض لها على أيدي المسؤولين. وظلّ ما قام به البوعزيزي في المخيلة العامة، وخلال أقل من شهر، اندلعت احتجاجات واسعة في جميع أنحاء البلاد أجبرت بن علي على الفرار وأدّت إلى سلسلة من الثورات في العالم العربي، وقد شارك أعضاء حزب حركة النهضة في هذه الاحتجاجات إلى جانب التونسيين الآخرين، ولكن دون الانطواء تحت راية الحزب، وذلك بهدف تجنّب إعطاء النظام ذريعة لقمع المظاهرات بتعلّة أنها من صنيع جماعة معارضة تسعى إلى الاستيلاء على السلطة. وفي الانتخابات الحرة والنزيهة الأولى التي أقيمت في البلاد، في أكتوبر سنة 2011، ساعد الحشد الشعبي لحزب حركة النهضة فضلاً عن سجلها الحافل من معارضة الدكتاتورية في الفوز بأكبر حصة من الأصوات، بفارق كبير، وقد تحالف حزب حركة النهضة مع حزبين علمانيين، سعيًا منها إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو ما يعدّ سابقة هامة في الحياة السياسية العربية المعاصرة. في عصر ما بعد الثورة في تونس، عندما هدّدت التوترات باكتساح الهياكل الديمقراطية الهشة في البلاد، دفعت النهضة للتسوية والمصالحة عوضًا عن الاستبعاد أو الانتقام، خلال المفاوضات حول الدستور الجديد، قدّم أعضاء مجلس نواب الشعب سلسلة من التنازلات الحاسمة، تتمثّل خاصة في الموافقة على نظام رئاسي – برلماني مختلط (في حين أن حزب حركة النهضة دعا في الأصل لإرساء نظام برلماني)، والاتفاق على أن الدستور لن يستشهد بالشريعة كأحد مصادر التشريع، ونتيجة لرغبة النهضة في تقديم تنازلات والعمل داخل النظام، جاء الدستور الجديد ليكرّس آليات الديمقراطية، وسيادة القانون، ومجموعة كاملة من الحقوق الدينية والمدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية. في سنة 2013، قام المتطرفون بسلسلة من الهجمات والاغتيالات السياسية، الأمر الذي أدى إلى بروز فترة من عدم الاستقرار واندلاع الاحتجاجات، وسعت عدّة أطراف إلى إقصاء حزب حركة النهضة من خلال ربطها زورا بهذه الجرائم، مما دفع بعدد من البرلمانيين إلى تعليق مشاركتهم في صياغة الدستور، وردًا على ذلك، سعت النهضة وشركائها في التحالف للقيام بتسوية بدلاً من كتابة وثيقة الدستور في خضم الاضطراب. وللحفاظ على شرعية العملية، فعلت الحكومة التي يقودها حزب حركة النهضة، شيئًا لم يسبق له مثيل في المنطقة؛ حيث تنحّت عن طيب خاطر عن الحكم وسلمت السلطة إلى حكومة حيادية، أو حكومة التكنوقراط، لم تكن أولويّتنا البقاء في الحكم ولكن التأكد من أن المجلس الوطني التأسيسي، الهيئة التمثيلية العليا، يمكن إكمال العمل على صياغة الدستور الذي من شأنه إرساء أسس سياسية لتونس الديمقراطية. وبعد انتخابات سنة 2014، اعترف حزب حركة النهضة بخسارته، حتى قبل الإعلان عن النتائج الرسمية، لصالح حزب نداء تونس وهو حزب يميني وسطي تأسس سنة 2012، ومنذ ذلك الحين، عمل حزب حركة النهضة مع نداء تونس باعتباره الشريك الأصغر في الحكومة الائتلافية، وعلى الرغم من أن الطرفان لا يتوافقان حول كل قضية، إلا أن التحالف ظلّ قائمًا، وأنتج إرساء دستور متين ينطوي على تعاون سياسي الظروف المناسبة لحزب حركة النهضة لاتخاذ الخطوة التالية في رحلتها نحو الديمقراطية الإسلامية. الفصل بين الدين والدولة في مؤتمره العاشر، الذي عقد خلال ماي، أعلن حزب حركة النهضة سلسلة من التغييرات التي شكّلت قراره الذي يتمثّل حصرًا في التركيز على السياسة، وترك الأنشطة الاجتماعية والتربوية والثقافية والدينية، وفي السنوات الأخيرة، تخلّى الحزب تدريجيًا عن ذلك مع الاعتراف بأن تلك الأنشطة ينبغي أن تكون ضمن نطاق منظمات المجتمع المدني المستقلة وليس لحزب معيّن أو لأي جهة على صلة به، وقد دلّ هذا التغيير، على أن كوادر الحزب لم تعد قادرة على الوعظ في المساجد ولا يمكن أن تتقلّد مناصب قيادية ضمن منظمات المجتمع المدني، مثل الجمعيات الدينية أو الخيرية. هدفنا هو الفصل بين المجالات السياسية والدينية ونحن نعتقد أنه لا يوجد حزب سياسي ينبغي أن يدّعي بأنه يمثل الدين وأن المجال الديني ينبغي أن يدار من قبل مؤسسات مستقلة ومحايدة، ببساطة، يجب أن يكون الدين غير متحزّب، نحن نريد للمسجد أن يكون مساحة تقارب بين الناس، وليس موقعًا للتقسيم. يجب ألا يشغل الأئمة مناصب في أي حزب سياسي، وينبغي تدريبهم كمختصين في مجالهم من أجل اكتساب المهارات والمصداقية المطلوبة من الزعماء الدينيين، حاليًا، خضع 7% فقط من الأئمة التونسيين لهذا التدريب. وافق الحزب خلال المؤتمر على تنفيذ استراتيجية شاملة للتغلب على التحديات الكبرى التي تواجه تونس، مع التركيز على تعزيز الإجراءات الدستورية، والسعي للعدالة الانتقالية، وإصلاح مؤسسات الدولة، وسن إصلاحات اقتصادية لتحفيز النمو، وخلق مقاربة متعددة الأبعاد لمكافحة الإرهاب، وتعزيز الحوكمة الرشيدة في المؤسسات الدينية. والآن أصبح حزب حركة النهضة يُنظر إليه ليس باعتباره حركة إسلامية بل باعتباره حزبًا من المسلمين الديمقراطيين، ونحن نسعى لإيجاد حلول لمشاكل التونسيين اليومية مواجهة بدلاً من الوعظ عن الآخرة، ولطالما ألهمت مبادئ الإسلام حزب حركة النهضة، ولكنه لم يعد من الضروري لحزب النهضة (أو أي طرف آخر) النضال من أجل الحريات الدينية؛ خاصة وأنه في ظل الدستور الجديد، جميع التونسيين يتمتعون بنفس الحقوق، سواء كانوا مؤمنين، أو ملحدين، كما أن الفصل بين الدين والسياسة سيمنع المسؤولين من استخدام الدين بهدف استغلال الجمهور. كما أن هذا الفصل سيساعد أيضًا على تجهيز تونس لمكافحة التطرف، فعندما قُمع الدين وأغلقت المؤسسات الدينية على مدى عقود، لم يجد الشباب التونسي مرجعية دينية، تروّج للفكر الإسلامي المعتدل حيث استسلم الكثيرون للتفسيرات المشوهة عن الإسلام التي اعترضتهم على شبكة الإنترنت، لكن مواجهة التطرف العنيف، يتطلب فهم التعاليم الحقيقية للإسلام، التي تستوعب احتياجات الحياة العصرية، كما أن الفصل الحقيقي بين الدين والدولة والإدارة الفعالة للمؤسسات الدينية ستسهل التعليم الديني وستعيد تقديم الفكر الإسلامي المعتدل إلى تونس. حققت تونس تقدمًا سياسيًا كبيرًا على مدى السنوات الخمس الماضية، ولتعزيز هذه المكاسب، يجب على الحكومة تحديد أولويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، كما يجب أن يتجاوز ذلك بناء المؤسسات الديمقراطية وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها تلبية الحاجة الملحة لفرص العمل والنمو، وتحقيقًا لهذه الغاية، دعت النهضة لإرساء حوار اقتصادي وطني شامل ونهج تشاركي للإصلاحات التي تستند على رؤية "رأسمالية إنسانية"، وهو منهج يوازن بين حرية النشاط مع المثل العليا للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وتحتاج الحكومة بهدف تعزيز النمو، إلى تمهيد الطريق لاستئناف الإنتاج في العديد من القطاعات الاستراتيجية، مثل صناعة الفوسفات، الذي تباطأ منذ الثورة بسبب الخلافات القائمة بين نقابات العمال والمنتجين بسبب الأجور وظروف العمل، كما يدعم حزب حركة النهضة بقوة الإصلاحات في القطاع المصرفي والتي من شأنها أن تجعل من السهل على الشركات والأفراد الحصول على التمويل. كما طالب الحزب بتقديم المزيد من المساعدات الحكومية للمشاريع الصغيرة بالإضافة إلى ضرورة تنويع العلاقات التجارية لتونس والرفع من صادرات تونس إلى دول الجوار من خلال فتح فرص جديدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والمضي قدمًا في المفاوضات الجارية حول اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي. يدعم حزب حركة النهضة جهود الحكومة المتواصلة لتشجيع ريادة الأعمال بين الأجيال الشابة، فقد قام زياد العذاري عضو حركة النهضة، ووزير التكوين المهني والتشغيل، بإصلاحات يحتاجها الشباب التونسي حيث أطلق برنامجًا جديدًا لتدريب أكثر من 600 ألف تونسي عاطل عن العمل، وتجديد مراكز التدريب المهني، فضلاً عن خلق سلطة وطنية للتوجيه المهني. كما تدعم النهضة الإصلاحات التي من شأنها أن تجعل من السهل إقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص والتأسيس لأعمال تجارية جديدة، وقد قدمت الحكومة التي يقودها حزب حركة النهضة من سنة 2011 إلى سنة 2014 قانونًا جديدًا من شأنه أن ينظم مثل هذه الشراكات، حيث تمّ اعتماده مؤخرًا، وتجدر الإشارة إلى أن البرنامج الجديد المقترح من قبل العذاري سيساهم في خلق برامج التوجيه للمشاريع المبتدئة ودعم أصحاب المشاريع من خلال تقديم التدريب وإرساء نظام تمويل مرن. لكن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تتقدم، دون إحداث تغييرات كبيرة في النظام التعليمي، الذي أصبح منفصلاً عن واقع سوق العمل في تونس، حيث بلغ معدل البطالة الإجمالي حاليًا نحو 15%، يجب أن يكون التعليم طريقًا للعمل، وليس جسرًا إلى البطالة هو ما دفع بحزب حركة النهضة إلى إرساء الإصلاحات التي من شأنها أن تساعد المؤسسات التعليمية على تلبية احتياجات السوق، بما في ذلك التركيز أكثر على المهارات، وتوفير خطط التدريب التقني، وتقريب الطلاب من الفرص وتوفير التدريبات في القطاعين العام والخاص. ويتطلب تعزيز التحول السياسي في تونس، وتحقيق التقدم في مجال التنمية الاقتصادية، تغييرًا اجتماعيًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بدور المرأة في الحكومة وقطاع الأعمال، حيث إن مشاركة المرأة التونسية وقيادتها في المجال السياسي والقضائي، ومجال منظمات المجتمع المدني، كان حاسمًا في التحول الديمقراطي في البلاد، وتجدر الإشارة إلى أن 60% من خريجي الجامعات التونسية اليوم هم من الإناث، ومع ذلك لا تزال المرأة تواجه نسبة بطالة أعلى من الرجال بلغت حوالي 21.5% مقارنة بحوالي 12.7% سنة 2014. ويعتمد التطور الديمقراطي في البلاد على إزالة العقبات التي تواجه المرأة في كافة المجالات، وتعزيز المساواة، فضلاً عن حماية حقوقها، ولتحقيق هذه الغاية، يدعم حزب حركة النهضة التمثيل المتساوي بين الجنسين في جميع القوائم الحزبية في الانتخابات المحلية التي ستجرى في مارس 2017، كما دعا أيضًا أعضاء حزب حركة النهضة في البرلمان إلى منح إجازة أمومة أطول وذلك لحماية المرأة من التمييز. وبطبيعة الحال، يطغى الوضع الأمني على كل هذه القضايا، ويعتبر التحدي المتمثل في الحفاظ على أمن التونسيين في منطقة غير مستقرة، اختبارًا لقدرة النظام الديمقراطي الجديد في البلاد، لذلك، يجب على الدولة حماية مواطنيها وضمان احترام الحقوق الفردية وسيادة القانون، وقد دفع ذلك حزب حركة النهضة إلى القيام بتعديلات حول قوانين مكافحة الإرهاب التي تضمن حق المتهمين في الحصول على المشورة القانونية، كما دعا أيضًا إلى وضع استراتيجية شاملة للأمن القومي من شأنها أن تعالج الأسباب المعقدة الكامنة وراء التطرف، كما يتطلّب القضاء على الإرهاب تحولاً ثقافيًا، يتّجه نحو احترام سيادة القانون وحماية حريات الأفراد والمجتمع المدني ووسائل الإعلام من قبل المؤسسات الأمنية في تونس، ويعتبر الإصدار الأخير لأحكام تضمن حقوق المعتقلين، وإنشاء لجنة وطنية لمكافحة التعذيب، خطوة في الاتجاه الصحيح. تتمثّل الطريقة الوحيدة لهزيمة الجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة في تقديم بديل يعطي الأمل لملايين الشباب المسلم في جميع أنحاء العالم، حيث واجه المواطنون في العالم العربي، التهميش الاجتماعي فضلاً عن قمع الأنظمة المستبدة، لذلك، استغلت الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم الدولة، الإحساس بالإحباط بهدف نشر الفوضى والاضطراب وفرض طغيانهم على المنطقة. ولكن من خلال إظهار أن الديمقراطية الإسلامية يمكن أن تحترم الحقوق الفردية، وتعزّز الفرص الاجتماعية والاقتصادية، وتضمن حماية القيم والهويات العربية الإسلامية، فإن نجاح الديمقراطية في تونس سيكون بمثابة توبيخ للطغاة العلمانيين والمتطرفين الذي يمارسون العنف. كما نأمل أن تحوُّل حزب حركة النهضة في الآونة الأخيرة من شأنه أن يشجع على تدعيم الحوار في العالم الإسلامي حول مدى توافق الإسلام والديمقراطية، ويبيّن مفهوم الحزب السياسي الشامل، إلى جانب توضيح كيفية بناء أنظمة ديمقراطية تشجع على التعددية وتحترم الحق في الاختلاف. وبطبيعة الحال، تختلف البيئة السياسية التونسية عن بقية دول المنطقة، حيث إن الدول العربية الأخرى مثل مصر والعراق وسوريا، لا تزال تعاني من الدكتاتورية وحكم الجيش وهي غارقة، أيضًا، في الصراعات العرقية والطائفية، لذلك، كلما تعقدت الأوضاع الداخلية في البلاد، ارتفع ثمن التغيير واستغرق فترة أطول، ولكن التغيير قادم لا محالة، سواء كان ذلك نتيجة لحرب أهلية أو ثورة سلمية أو إصلاح تدريجي، وعندما يحين الوقت، نأمل أن تكون كلّ من تونس وحزب حركة النهضة بمثابة نموذج قيّم. المصدر: فورين أفيرز