مؤتمر حزب النهضة التونسي، الذي تم عقده في مدينة الحمامات التونسية 2016، يكشف في رمزيته وكذلك في لغة هذا الحزب الجديدة عن تخلي حزب النهضة عن الإسلام السياسي لصالح الديمقراطية الإسلامية، مثلما ترى الباحثة الألمانية المختصة في شؤون الإسلام السياسي، إيفيسا لوبين، في تحليلها التالي لموقع قنطرة. في حفل الافتتاح الذي أُقيم في القاعة الأولمبية في مدينة رادس وتم نقله مباشرة من قبل التلفزيون التونسي، ظهر حزب النهضة أمام أكثر من عشرة آلاف شخص من أتباعه وضيوفه كقوة وطنية في هذا البلد المغاربي من خلال ترديد النشيد الوطني بشكل جماعي والعرض الرمزي لعلم تونسي بحجم أكبر من الحجم العادي. "النهضة حزبٌ وطنيٌ يُغَلِّب مصلحةَ تونس على مصلحته"، مثلما قال زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، في كلمته الافتتاحية وترحَّم على شهداء الشرطة والجيش، الذين سقطوا في الحرب ضدَّ الإرهاب، مثلما ترحَّم أيضًا على شهداء الثورة وشهداء معركة التحرير والنضال ضدَّ دكتاتورية زين العابدين بن علي وحيَّاهم. شدَّد راشد الغنوشي مرارًا وتكرارًا على حاجة تونس إلى الوحدة الوطنية في الحرب على الإرهاب ومن أجل إعادة بناء اقتصاد تونس، وقارن نفسه أثناء حديثه مع شخصيات مثيرة للجدل مثل المُفكِّر الإصلاحي خير الدين التونسي، ومؤسِّس دولة تونس الحبيب بورقيبة، وخصمه صالح بن يوسف، وكذلك الشيوعي ومؤسِّس الاتِّحاد التونسي للشغل فرحات حشاد. وهذه من دون شكّ إشارة إلى أنَّ حزب النهضة الإسلامي يحاول أن يجد لنفسه مكانًا في وسط المجتمع التونسي. وقد تمثَّلت ذروة حفل الافتتاح في ظهور الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي قوبل بتصفيق حار وهتافات من قبل أعضاء حزب النهضة. وبدوره فقد أشاد الباجي قائد السبسي بجهود راشد الغنوشي الرامية إلى إقامة الوحدة الوطنية، ورفض جميع أشكال الفهم الشمولي للإسلام ودعا حركة النهضة إلى إثبات أنَّها قد تحوَّلت الآن إلى حزب تونسي ديمقراطي مدني. انتقاد "تحالف السبسي والغنوشي" إنَّ ما مهَّد الطريق من أجل الحوار الوطني أثناء فترة الأزمة الدستورية في تونس ووفَّر على تونس – على الرغم من الضغط المستمر من الداخل والخارج – سيناريو في السياسة الداخلية يشبه السيناريو الذي وقع في مصر، هو ذلك اللقاء السرِّي، الذي عُقِدَ في شهر أغسطس 2013 في باريس بين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي المقرَّب سابقًا من الرئيس الحبيب بورقيبة والمعارض لحركة النهضة. ولم يسلم "ائتلاف الرجلين المسنين" من الانتقادات على المستوى الشعبي وفي محيط حزب النهضة. على سبيل المثال كانت هناك مخاوفُ من أن هذه التسوية بين النخب ربما تؤدِّي إلى إعادة تشكيل شبكات النظام القديم وإلى تجاهل عملية إعادة تأهيل ضحايا النظام السابق. ولهذا السبب فقد قام أيضًا الشريك الائتلافي السابق لحزب النهضة، الرئيس السابق منصف المرزوقي، برفض الدعوة إلى حضور مؤتمر حزب النهضة. لقد كان المؤتمر العاشر لحزب النهضة مقرَّرًا في الأصل كمؤتمر استثنائي، تم تخصيصة من أجل توضيح العلاقة بين مهمة الحزب الدينية (أي الدعوية) وبين السياسة. لقد تم تشكيل حزب النهضة الإسلامي في الأصل في عام 1981 تحت اسم حركة الاتِّجاه الإسلامي MIT كحركة تجديد دينية، كان هدفها هو الدفاع عن هوية تونس الإسلامية ضدَّ السياسة العلمانية التي كان ينتهجها مؤسَّس دولة تونس الحبيب بورقيبة وخليفته زين العابدين بن علي. وفي عهد بن علي تم أخيرًا حظر حركة النهضة. ولم يكن بإمكان قادتها العودة إلى تونس والاندماج في العملية السياسية إلاَّ بعد ثورة عام 2011. واليوم أصبح حزب النهضة بأعضائه البالغ عددهم نحو ثمانين ألف عضو إلى مائة ألف عضو أكبر قوة سياسية في البلاد من حيث عدد الأعضاء، وبات يمثِّل – بعد تفكيك حزب نداء تونس – أقوى تكتُّل برلماني بفضل نوَّابه البالغ عددهم سبعة وستين نائبًا. وحزب النهضة يشارك حاليًا في الحكومة الائتلافية بحقيبة وزارية واحدة. طالب لطفي زيتون، وهو المستشار السياسي لراشد الغنوشي، في شهر يونيو 2015 في مقابلة مع صحيفة "لا بريس" التونسية بالفصل بين الدين والسياسة في تونس. ولكن مع ذلك فقد قوبل ذلك برفض من القاعدة الشعبية لحزب النهضة وكوادره المحافظين، الذي يخشون من أنَّ هذا الحزب سيفقد من خلال الفصل الصارم بين الدعوة والسياسة هويَّتَه وسيفقد بالتالي الترابط الداخلي الذي حافظ على تماسُك حركة النهضة عندما كانت حركة محظورة. وفي آخر المطاف أسفرت النقاشات المكثَّفة داخل حزب النهضة عن توافق في الآراء، أدَّى بحسب اللغة المتداولة في حزب النهضة إلى "التخصص": وهذا "التخصص" يجب ألاَّ يُفهم باعتباره انقسامًا في الحركة، بل كشكل من أشكال التخصص الوظيفي، بحسب وصف الغنوشي، الذي قال إنَّ "لوائح مؤتمرنا أكَّدت على التخصص الحزبي بالنسبة للذين يختارون العمل الحزبي، والتخصص في العمل الخيري والثقافي والاجتماعي والدعوي بالنسبة للذين يختارون التخلي عن المؤسَّسات الحزبية السياسية والتفرُّغ لخدمة المجتمع ضمن منظَّمات المجتمع المدني والهيئات غير الحزبية". وبحسب مسوَّدة البيان الختامي للمؤتمر العاشر لحزب النهضة فإنَّ حركة النهضة "تأمل في أن يكون عمل المراجعة والتقييم تقليدًا تلتزم به كلُّ مكوِّنات المجتمع المدنية والسياسية"، [بحيث يكون دور المجتمع المدني في الديمقراطية الحديثة دورا تصحيحيا للسياسة]. وبالتالي فإن النهضة أيضا تتكيَّف مع الوضع القانوني الجديد في البلاد، والذي اشتركت هي بالذات في تشكيله داخل الجمعية التأسيسية الخاصة بصياغة الدستور. لقد منح الدستورُ التونسيُّ الجديدُ -من ناحية- المجتمعَ المدنيَّ فُرَصًا واسعة للمشاركة في صنع القرارات السياسة، غير أنَّ هذا الدستور ينصُّ -من ناحية أخرى- على الفصل فصلاً تامًا بين المجتمع المدني والأحزاب السياسية. ولذلك لا يجوز الجمع في الوقت نفسه بين المسؤوليات السياسية (في الأحزاب) والمسؤوليات الدينية في منظمات المجتمع المدني. وفي برنامجها الجديد تخلت حركة النهضة عن مفهوم "الإسلام السياسي"، لأنَّ هذا المفهوم له دلالات سلبية للغاية. وبدلاً من ذلك أصبحت النهضة تُعرِّف نفسها على أنَّها "حزبٌ ديمقراطيٌ وطنيٌ مُتفرِّغٌ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام". ومع إقرار الدستور التونسي الجديد، الذي "حدَّد أن تونس دولةٌ حرة مستقلة ودينها الإسلام"، تم حسم مسألة الهوية، مثلما فسَّر ذلك راشد الغنوشي في كلمته الافتتاحية. وأكَّد على نقل القيم الدستورية إلى برامج تنموية ملموسة، فهذا هو السبيل الوحيد من أجل ترسيخ مكاسب الثورة. وقال: "اليوم تنتقل النهضة من مرحلة الدفاع عن الهوية إلى الانتقال الديمقراطي إلى المهمة الاقتصادية. هذه المرحلة مرحلة اقتصاد". وعلى الرغم من تخلي حزب النهضة رسميًا عن الإسلام السياسي، غير أنَّ هذا الحزب لا يزال يلتزم بفهم شامل للإسلام على أساس ما يُعرف باسم المقاصد (أي الأهداف العليا للشريعة) وكذلك على أساس مجموع القيم الإسلامية، التي يستند إليها برنامج الحزب. وعلى العكس مما كان متوقعًا فقد تجلى الأمر الأكثر إثارة للجدل خلال مؤتمر حزب النهضة العاشر في عدم نقاشه حول صورته الجديدة، بل حول تعديلات نظامه الأساسي. وكانت غالبية مندوبي مؤتمر حزب النهضة قد طالبت بضرورة أن يتم في المستقبل انتخاب المكتب التنفيذي من قبل مجلس الشورى، وهو أعلى هيئة لصنع القرار مُنتخبة في الحزب – بعد أن كان يتم تعينه حتى ذلك الحين من قبل رئيس الحزب، أي من قبل راشد الغنوشي. الغنوشي شخصية توحِّد صفوف النهضة وردًا على ذلك أعلن الغنوشي أنَّه في هذه الحالة لن يكون متوفِّرًا كرئيس للحزب. وكان تبريره: أنَّه لا يستطيع أن يتحمَّل مسؤولية الحزب إلاَّ مع قيادة جماعية متجانسة في حدِّ ذاتها. وبعد ذلك تم الحفاظ على نظام النهضة القديم. وعلى ما يبدو فقد كان هناك إجماعٌ كبير بين مندوبي مؤتمر النهضة على عدم التخلي في هذه المرحلة عن راشد الغنوشي كشخصية توحِّد صفوف الحزب. وفي انتخاب رئيس الحزب أُعيد انتخابه بعد ذلك بثمانمائة صوت من أصل ألف وثمانية وخمسين صوتًا. ونتيجة لذلك فقد اتَّهم المنتقدون حزب النهضة بازدواجية المعايير. وقالوا لا يمكن لأي حزب أن يتمتَّع بالمصداقية الديمقراطية إلاَّ إذا كان يُخضِع نفسه من الداخل أيضًا للتحوُّل الديمقراطي. ولكن راشد الغنوشي مَعْنِيٌ على الأرجح بشيء آخر: فهو يريد أن يقود عملية التحوُّل إلى حزب سياسي حتى النهاية وأن يترك لخليفته نهضةً قويةً – حزبًا تعلَّم التعامل مع الاختلاف والتنوُّع الداخلي. فمع تغيير النظام الأساسي تقرَّر في مؤتمر الحزب أن يتم تحديد مدة ولاية رئيس الحزب انطلاقًا من المؤتمر التاسع في ولايتين رئاسيتين. وهذا يعني أنَّه تم التمهيد مع المؤتمر العاشر لنهاية عهد راشد الغنوشي. منذ عام 2011 واجهت النهضة العديد من الصراعات الداخلية بين أنصار المصالحة الوطنية وبين أولئك الذين يفضِّلون إجراء تحقيق شامل في الجرائم التي ارتكبت في عهد زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة وقد نجا مرتكبوها. وكانت هناك أيضًا صراعات بين كوادر سياسية ترغب في انفتاح أكبر من جانب الحزب، وبين الجناح الديني للحزب، بين أنصار برامج اقتصاد السوق الحرة وبين نقَّاد التحرر الاقتصادي. وكان حسم هذه الصراعات بفضل راشد الغنوشي بصفته شخصية قادرة على توحيد صفوف الحزب، وكذلك بفضل التاريخ المشترك وهوية الحزب الإسلامية كنقطة مرجعية مشتركة. ولكن مع ذلك لا يزال من غير المؤكَّد إن كان حزب النهضة سيتمكَّن أيضًا في المستقبل من دمج التيَّارات المختلفة، التي اكتسبت تأثيرًا في مؤتمره، أو إن كان حزب النهضة سينقسم إلى عدة تنظيمات – مثلما حدث مع العديد من الأحزاب التونسية الأخرى.