في عراقنا الجديد لم نعد نحصي الظواهر الغريبة والموازين المقلوبة في كل شأن من شؤون الحياة، فلم يبق شيء على حاله، لا في الأرض ومعالمها، ولا في النفوس وطبائعها، ولا في أبسط الأمور وأعقدها. يوم الجمعة الماضي فقد العراق أحد علمائه الكبار، فاجتمع الناس لتشييعه وتبادلوا التعازي ورسائل المواساة، وصدرت بيانات النعي من أغلب الجهات والمؤسسات ذات الطابع العلمي والثقافي، وهذا أمر طيب ومألوف والحمد لله، غير أن الناس الذين لا يعرفون الشيخ -رحمه الله- خاصة من الأقطار الأخرى تفاجؤوا لحالة الإجماع على تزكية الشيخ والثناء على منهجه العلمي والعملي وأسلوبه في التعامل مع الناس ومع قضايا الأمة، (العالم العامل) و(الداعية الصادق) و(القائد القدوة) و(محدث العراق) و(الخطيب المبرز) و(صاحب الكلمة الشجاعة) هذه العبارات لم تأت على لسان تلامذته وأحبابه، بل جاءت أيضا على لسان شيوخه وأقرانه مهما اختلفت توجهاتهم ومدارسهم ومواقعهم. اللافت هنا أن هذا التقويم أو (التقييم) لم يسمعه الناس إلا يوم الجمعة الأخيرة! لقد كانت المؤتمرات تعقد في العواصم العربية لبحث المعضلة العراقية فلا يذكره أحد! وكانت الفضائيات العراقية والعربية تستضيف المفكرين والمحللين والمراقبين لكنها لا تستضيف الشيخ ولا تعرف اسمه، حتى حينما تعرض لمحاولة اغتيال آثمة، وكدنا نخسره من ذلك الوقت ونخسر أبناءه الذين كانوا برفقته -وكلهم من طلبة العلم النجباء- لم تصدر البيانات ولا الاستنكارات ولم يأت ذلك في خبر ولا تعليق! حتى اضطر للهجرة، وبعد هجرته هذه أحرق المجرمون بيته وبيت شقيقه، كل هذه الأخبار وغيرها كثير يتداولها أحبابه وتلامذته على صفحاتهم الخاصة دون أن تحظى بالاهتمام من أصحاب الشأن حتى ممن أشادوا به الآن بعد موته! إنها ظاهرة من ظواهر العراق الجديد ألا يجتمع الناس على علمائهم ورموزهم ولا يظهروا مكانتهم وفضلهم إلا بعد موتهم! في الوقت الذين هم فيه بأمسّ الحاجة والضرورة إلى من يجمعهم ويمدهم بالفكرة والخبرة والكلمة الناصحة! هذه ظاهرة لا تخص عالما بعينه، وهي إحدى معوقات الحل التي ينبغي تداركها ومعالجتها. إن الرغبة في استقطاب الجنود والأتباع تقترن دائما بالنأي عن الشركاء والأنداد، وهذا النأي قد يصل إلى حالة من الخوف والقلق مما يجر إلى ممارسات غير مقبولة كالتشويه والتهوين وكتم الشهادة أو تزويرها، أما حينما تنتهي هذه المخاوف بموت (المنافس) المفترض، فإن عاطفة الأخوة القديمة والصداقة العريقة تستيقظ من جديد. إذا كان هذا التفسير له شيء من الصحة والمصداقية فإننا أمام أزمة أخلاقية لا تقل خطورة عن أزماتنا الأخرى حتى السياسية والأمنية منها. وإذا كان السياسيون يتنافسون على السرقات والامتيازات، فعلى أي شيء يتنافس الآخرون؟ إن التنافس على الصدارة والجاه الموهوم في مثل هذه المحنة لا يشي إلا بخَطَل في العقول وخلل في النفوس، وإن مصيبتنا في ذلك أكبر بكثير من مصيبتنا في فقد علمائنا وقادة الرأي فينا، عليهم جميعا رحمات الله. إن شيئا من التواضع والموضوعية كفيل بأن يجمع من بقي من الأحياء ليعيشوا على أرضهم قبل أن تتفرق أشلاؤهم في أراضي الشتات.;