محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن هناك استهدافا منهجيا لتركيا ولتجربتها الديمقراطية الصاعدة، فبعد أزيد من 15 عملية إرهابية استهدفت مناطق حساسة في تركيا أبرزها مطار أتاتورك الدولي، وبعد عدة سنوات من التوتر مع المحيط من تداعيات الأزمة السورية، وبعد فشل جميع المحاولات الرامية إلى إسقاط التجربة الحالية بواسطة صناديق الاقتراع، لجأ أعداء تركيا إلى إقحام الجيش في المحظور لإجهاض التجربة الديمقراطية، ودفعوا بمجموعة من المتمردين إلى تنفيذ محاولة انقلاب عسكري قامت بقصف البرلمان، وهي إشارة واضحة إلى رفض نتائج الاقتراع العام، كما استولوا على عدد من المطارات، وأغلقوا ممر البوسفور الحيوي، وفرضوا حظر التجول، وسيطروا على القناة التركية الرسمية وأعلنوا وقف العمل بالدستور وعودة الأحكام العرفية، مرورا بمحاولة اغتيال الرئيس رجب طيب أردوغان الذي كان في عطلة في منتجع مرمريس جنوب غرب البلاد، مرورا باعتقال رئيس أركان الجيش. موقف المعارضة التركية كان موقفا وطنيا متعاليا على الاختلافات الإيديولوجية وساهم في إفشال هذه المحاولة المغامرة، لكن كلمة الحسم كانت للشعب التركي الذي نزل للشوارع للتعبير عن رفض الانقلاب العسكري. لكن ماذا يعني الانقلاب على الديمقراطية؟ إنه يعني بكل وضوح: إسقاط مفاجئ للحكومة الشرعية المنبثقة عن انتخابات حرة ونزيهة، وتنصيب سلطة عسكرية أو مدنية محلها، إنها عملية مصادرة منهجية للإرادة الحرة للمواطنات والمواطنين بالاعتماد عادة على قوة منظمة هي الجيش. ولا خلاف أن هذا الأسلوب في الاستيلاء على السلطة هو أسلوب يتعارض مع المنطق الديمقراطي القائم على حرية المواطنين وحقهم في اختيار من يدبر شؤونهم العامة. في موسوعة ويكيبيديا نقرأ بأن المصطلح الفرنسي (coup d'Etat) ظهر في القرن 19 للإشارة إلى الإجراءات المفاجئة والعنيفة التي كان يتخذها رئيس الدولة دون احترام للقانون أو العادات الأخلاقية، للتخلص من أعدائه، وكان يلجأ لها للحفاظ على مصالحه وأمن الدولة، وهو ما يعني أن هذا المصطلح يشمل جميع الإجراءات المنافية للشرعية والمشروعية. غير أن مفهوم «انقلاب» توسع طيلة فترة القرن 19 فأصبح يدل على أعمال العنف التي ترتكبها أحد مكونات الدولة، من أجل عزل رأس الدولة، ففرض هذا المصطلح نفسه، وتم تمييزه عن مصطلح «ثورة»، الذي يعني محاولة تغيير رأس السلطة من قبل مدنيين لا نفوذ لهم في هياكل الدولة، وهو أيضا أسلوب غير ديمقراطي رغم خلفيته المدنية.. لكن هل عملية الانقلاب على الديمقراطية تتم فقط بأدوات عسكرية خشنة، أم يمكن مصادرة الإرادة الحرة للمواطنين أو تحريفها بأدوات مدنية ناعمة؟ في سنة 1930 ظهر كتاب «تقنيات الانقلاب» من تأليف الإيطالي كورزيو مالابارتي، الذي اشتغل على أنشطة الحركات الفاشية والنازية، وانتهى إلى أن مفهوم الانقلاب لا ينطبق فقط على العسكريين والسياسيين بل يشمل حتى القوى المدنية، التي تعمل على زعزعة استقرار الحكومة من خلال إجراءات تهدف إلى خلق حالة من الفوضى الاجتماعية تعمل على تبرير وتمكين وصول انقلابيين إلى السلطة والأمثلة عديدة على هذا الأسلوب من التاريخ المعاصر.. في بلادنا، ولأسباب تاريخية معروفة هناك مناعة قوية ضد الانقلابات العسكرية، ولذلك عبرت المملكة المغربية عن إدانة سريعة لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا، كما عبر بيان وزارة الخارجية عن وقوف المغرب إلى جانب الحكومة المنتخبة في تركيا.. المغرب الذي نجا من محاولتين عسكريتين للإطاحة بالنظام الملكي خلال بداية السبعينات، يحتاج لمناعة قوية ضد المناورات الانقلابية التي تريد مصادرة الإرادة الحرة للمواطنين والمواطنات بواسطة الحيلة والخداع وبواسطة أدوات مدنية ناعمة.. إن من يقوم بدعم أحزاب اصطناعية ويوفر لها أسباب القوة، في مقابل التضييق على الأحزاب الوطنية المستقلة في قرارتها، إنما يسعى للانقلاب على الديموقراطية..إن من يريد التلاعب باللوائح الانتخابية ويسعى بكل الوسائل لعرقلة حق المواطنين في التسجيل في هذه اللوائح ويسعى للتشطيب على عدد منهم، إنما يريد مصادرة حقهم في اختيار من يدبر شؤونهم، وتوجيه أصواتهم نحو أحزاب سلطوية هجينة.. إن من يمارس الضغط على الأعيان المحليين ويحشد دعمهم لفائدة حزب تحكمي لقيط، إنما يريد الانقلاب على أصوات المواطنين بطرق مخادعة..أما من يساند الانقلابات العسكرية في الخارج، فقط لأن السلطة المنتخبة هناك أتت بمن يخالفونه في المرجعية والإيديولوجية، فهذا انقلابي حقيقي يعيش بيننا ومستعد للإجهاز على ديمقراطيتنا الفتية متى سنحت له الفرصة.. في جميع الأحوال، أثبتت التجربة أن الشعب قادر على إحباط جميع المغامرات الانقلابية سواء كانت بلباس عسكري مكشوف أم كانت بطرق مدنية ناعمة... الكلمة للشعوب التي تحررت من الخوف وهي تعرف طريقها جيدا نحو الحرية والكرامة، وقادرة على حماية أصواتها في جميع الحالات.