هذه المنطقة الممتدة من حلب إلى الموصل ومن حمص إلى الفلوجة، تتعرّض ومنذ سنوات إلى عملية حرق شامل ومنظم لم يعد خافيا على أحد. اختلفت الأسباب واختلفت الأدوات، لكن النتيجة واحدة. نعم هناك توحّش وهناك طائفية وهناك فوضى في كل شيء في السياسة والدين والفكر والسلاح، لكن خيوط اللعبة التي تحرّك كل هذه الأدوات واضحة أيضا، ومن يحاول أن يتجاهلها تهرّبا من (عقدة المؤامرة) فإنه سيصطدم بالواقع، وسيترك فراغات كثيرة من غير جواب. نبدأ بجماعة (داعش) التي يفترض أنها أقرب إلى حالة الفوضى والبعد عن دهاليز السياسة: ابتعدت داعش عن دمشقوبغداد، وانسحبت من ديالى وسامراء بعد دخولهما من غير قتال، وكذلك المناطق الحساسة مثل سد الموصل على نهر دجلة وسد حديثة على نهر الفرات وسيطرة مخمور باتجاه أربيل، أما كربلاء والنجف فلم تقترب منهما نهائيا، بينما راحت تحشد باقي قواتها في سرت الليبية وسيناء المصرية وعدن اليمنية! وليس في كل هذه المدن (رافضة) ولا (مجوس)! خارطة عمليات داعش حصرا هي المدن السنّية الخالصة، التي أخذتها من أهلها وحكوماتها المحلية، لتعيث في داخلها فسادا حتى يضطر الناس للهرب إلى كل صوب، في حالة من الشتات والضياع غير المسبوقة، ثم تأتي القوات الحكومية والمليشيات الطائفية المدعومة بطيران التحالف لتحرير هذه المدن! فتتحول هذه المدن إلى خرائب، ثم نبحث عن داعش فلا نجدها! يقول أحد المتعاطفين مع داعش معقبا على معركة الفلوجة: إن الدولة الإسلامية ليست حريصة على التمسّك بالمدن، فاستراتيجيتها تعتمد على استنزاف العدو، والمكان ليس مهما! لكنه لم يبيّن لنا لماذا تصرّ داعش إذاً على تحويل هذه المدن إلى ساحة حرب مفتوحة ثم تتخلى عنها بأقرب مواجهة؟ لماذا لا تستنزف العدو في معسكراته وعلى تحركاته في الطرق الخارجية؟ أغرب من هذا من يقول: إن دخولهم في هذه المدن كان للدفاع عن أهل السنة! وهو يرى أن أهل السنة قد فرّوا من دولته الإسلامية وفضلوا اللجوء إلى بغداد وأربيل، ومنهم من جازف ولجأ إلى مليشيا الحشد فكانت كارثة الصقلاوية وغيرها. هناك في المقابل حالة تحتاج إلى مزيد من النظر والاهتمام، وهي أن الحكومة وقوات التحالف لا تقاتل داعش إلا داخل هذه المدن، وقد عرضت الجزيرة تقريرا مصوّرا للطريق الاستراتيجي بين الرقة والموصل، الذي كان مزدحما بأرتال داعش من جنود ووقود وسلاح، والمذيع يسأل أحد المقاتلين الكرد الذين يسيطرون على راقم مشرف على الطريق: لماذا لا تعترضون طريق داعش هذا وهي ذاهبة لقتالكم؟ فيجيب: الأميركان لا يسمحون لنا! نعم كل عراقي يعرف مقرات داعش التي كانت في وادي حوران وفي ربيعة وغيرهما قبل نزولها إلى هذه المدن، وكان باستطاعة الطيران الأميركي معالجتها بأقل الجهد والتكلفة. أصبح من الواضح لكل متابع أن هنالك تسهيلات لا حدود لها لترفع داعش راياتها فوق الأحياء السكنية ومصانع الإسمنت والوقود والبنى التحتية وحتى المساجد والمدارس والمستشفيات، ثم تبدأ الحرب بكل الأسلحة الثقيلة والخفيفة، لتكون النتيجة قتل بعض الأفراد من داعش في مقابل حرق هذه المدن بالكامل لننظر الآن في الصورة الأوسع بدون أحكام مسبقة أو ضغوط أيديولوجية أو نفسية، الدول التي تحد هذه المنطقة الملتهبة ست دول: تركياوإيرانوالكويت والسعودية والأردن ولبنان، وبمقارنة سريعة لدور هذه الدول وأسلوب تعاطيها مع الحريق الملتهب على حدودها نكتشف ما يشبه اللغز. إيران هي الدولة الوحيدة التي تصول وتجول في طول هذه المنطقة وعرضها من الفلوجة إلى حلب! بجيوش ومليشيات ومستشارين وخبراء كلهم تحت الشمس وفي وضح النهار، ثم من باقي دول الجوار الأخرى لم يتحرك إلا (حزب الله) وهو الذراع الإيراني الذي لا يخفي ارتباطه الفكري والتنظيمي بإيران. هل فعلا لا تشعر دولة مثل تركيا بأن تواجد الجيوش الإيرانية على حدودها الجنوبية يشكل تهديدا مباشرا لمصالحها الخارجية ولأمنها الداخلي؟ وهل فعلا تحتاج السعودية أو الأردن أو الكويت إلى من يذكرهم أو يوعّيهم بخطورة الوضع، وهل ادّخرت إيران شيئا من نواياها تجاه هذه الدول، بعد صواريخ (النمر) وتهديدات سليماني؟ حينما نلتقي بشباب السنّة في العراق يقولون لنا: أين دوركم في فضح المخطط الإيراني وخطورته على المستويين العربي والإسلامي؟ وكنا نقول لهم: إن الناس هنا لا يقلّون وعيا أو استشعارا للخطر عنكم، الموضوع لا يتعلق بالوعي. إذا لم تكن المسألة مسألة وعي فما الذي يجعل إيران تقدم كل هذا الإقدام ودول المنطقة كلها تحجم كل هذا الإحجام؟ حتى الكيان الصهيوني يبدو في هذه المرحلة وكأنه الكيان الوديع أو (العاقل) الذي يرى الجيش الإيراني على حدوده، ويرى حزب الله براياته وأسلحته يشق الحدود ذهابا وإيابا فلا يعبأ ولا يكترث وكأن الأمر لا يعنيه! هناك أسماء رنانة على المستوى الإقليمي والعالمي مثل جامعة الدول العربية والأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان والحيوان… إلخ، كل هؤلاء كانوا قد أدمنوا (القلق) إزاء كل حادث صغر أو كبر، لكنهم إزاء التغوّل الإيراني لا يقلقون ولا هم يحزنون! حماس تلفتت سابقا إلى من يؤويها فلم تجد إلا (الأسد)، وإلى من يدعمها بالمال والسلاح والتدريب فلم تجد إلا (إيران)، وبهذا السياق جاء التصريح الأخير للقيادي موسى أبو مرزوق، ولم يسأل أبو مرزوق نفسه عن سرّ هذا الاستثناء؟ لو قارنّا المساحة التي تحتلها إيران اليوم عمليا في العراق وسوريا واليمن إضافة إلى الأحواز والجزر الإماراتية بمساحة الكويت التي احتلها صدام حسين لوجدت حجم الغطاء الذي يوفّره (المجتمع الدولي) لإيران ومشاريعها التوسعية وأسلحتها وأموالها ومليشياتها العابرة للحدود، كل ممنوع علينا مباح لإيران، ولن تجرؤ أية دولة مهما كانت قريبة أو حليفة للغرب أن تتحرك كما تتحرك إيران، حتى (إسرائيل) نفسها لا تمتلك مثل هذه الصلاحيات. نخلص من كل هذه الإشارات إلى أن ما يجري في المنطقة ليس (شطارة) إيرانية في مقابل خور أو إهمال من الآخرين، بل هناك دور وظيفي واضح ومحدد لحرق هذه المنطقة وحرثها، ولم يبق إلا أن ننتظر الغراس الجديد. إن (آية الله) الخامنئي و(خليفة الله) البغدادي ليسا سوى أداتين في هذا المشروع الجديد، وسينتهيان بانتهاء هذه الوظيفة، وإن غدا لناظره قريب.