إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. فيقول الله تعالى في كتابه الكريم من سورة الأنعام: (قل تعالوا اتل ماحرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم). تقدمت معنا الوصية الأولى والثانية من هذه الوصايا العشر الأولى في قوله تعالى: (ألا تشركوا به شيئا) والثانية في قوله سبحانه (وبالوالدين إحسانا)، وهذه وصية الله الثالثة وفيها تحريم قتل الأولاد مخافة الفقر، وإذا كان قتلهم محرما فإن القيام عليهم بالنفقة والرعاية والتربية حتى يكبروا ويرشدوا أمر واجب. فيكون للآباء على الأبناء حق وللأبناء على الآباء حق، فالطفل عندما يولد يكون ضعيفا ويسرع إليه الموت لأبسط الأسباب، فأمر سبحانه بإطعامه وحمايته حتى يستقل بنفسه، والتقى أمر الشرع مع مقتضى الفطرة في هذه الوصية. ويقتل الإنسان ابنه إما بمثابرة قتله بواحد من وسائله مثل خنقه أو دفنه حيا أو اسقاطه من شاهق أو دفعه لحيوان مفترس أو إغراقه في نهر أو بحر، ويكون قتله بإهماله عمدا وتركه فريسة للجوع أو المرض حتى يموت. وذكر الإملاق هنا وهو الفقر ليس على جهة الحصر فلو قتل ابنه خشية العار كما كان المشركون يقتلون البنات ويدفنوهن حيات كان محرما أيضا، وإنما ذكر سبحانه الإملاق لأنه كان ولا يزال السبب الأساسي الذي يدفع بعض الآباء لقتل أبنائهم ويستغرب صاحب الفطرة السوية من هذه الوصية ويقول: وهل يقتل الإنسان ولده؟ والجواب نعم، قد كان هذا في العرب قبل الإسلام فأبطل الإسلام تلك العادة، ويمكن أن تتجدد في أي وقت بسبب الأفكار المنحرفة وقد سمعنا من قتل أبناءه رغبة في الحصول على التأمين أو انتقاما من الزوجة المطلقة أو لمجرد أنهم مصدر ازعاج لحياته أو لغير ذلك من الأسباب. إن هذه الوصية تقرر أن الولد حياة إنسانية مستقلة لا يملك أبواه التصرف فيها بما يريدان، ولا يجوز لهما الاعتداء على هذه النفس ولو كانا سببا في وجودهما، فإن الله قال هو الذي يخلق، فهو وحده الذي يملك، وهو وحده الذي يحكم، (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم). بل إن الإسلام حرم قتل الولد وهو جنين لم يولد بعد، وأذن في إسقاطه إذا كانت حياة الأم مهددة وشهد بذلك طبيبان مسلمان فيكون اسقاطه عند ذاك ارتكابا لأخف الضررين حتى لا يذهب هو وأمه معا، ويتأكد التحريم عندما يتجاوز في عمره اثنتين وأربعين ليلة لاحتمال نفخ الروح بعد ذلك. إنه وبالرغم من أن ألوف الأسر تعاني الفقر، ويظهر من حالها أنها عاجزة عن توفير التربية الصحيحة لأبنائها إلا أن هذا الواقع لا يبيح لها قتل طفل واحد بعد والدته بسبب الفقر، فعليها أن تبذل ما في وسعها لإطعامه وتغذيته وحمايته ومعالجته، وإذا قدر الله عليه الموت بسبب نقص الغذاء وضعف الأسرة وفقرها فهذا أمر الله وقدره وأما أن يعمد إلى قتله لأنه عاجز عن إطعامه فهذا محرم. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإشراك بالله وبين قتل الولد مخافة الفقر عندما سئل أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك. إن من مقاصد الزواج في الإسلام ابتغاء الولد الصالح والذي يقتل ولده مخافة الفقر أو غيره يستعجل على نفسه ويحرمها من هذا الفضل ولاشك أن ابنه سيقاضيه يوم القيامة كما قال تعالى: (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت). وإذا كانت الأفكار الفاسدة وراء مثل هذه الجرائم، فإن دفعها يكون بالتوكل على الله والاعتماد عليه فهو سبحانه الرزاق ذو القوة المتين (نحن نرزقكم وإياهم). والتجارب التي لا تحصى تشهد بأن الطفل يولد ورزقه مقسوم، ويرى الوالدان ذلك رأي العين، بل كثيرا ما يرتفع عسر الأسرة ويتحسن أمرها بعد أن يدخل إليها طفل جديد. إن قتل الولد الصغير خشية الفقر يدل على قسوة في القلب وسفه في الرأي وانحراف في الفطرة، وهو ظلم وعدوان فتحريمه هو الموافق للحق والعدل. أما ما يلجأ إليه الزوجان من وسائل تمنع الحمل أن ينعقد فهذا جائز لأنه وقاية ولم يحرم الإسلام أن يباعد الزوجان بين حمل وحمل حتى يأخذ كل طفل حقه من الرضاعة والرعاية. وبهذا يقف الاسلام موقفا وسطا فيأذن بتنظيم الحمل حتى توائم الأسر بين عدد أفرادها وبين إمكاناتها المادية ويحرم قتل الطفل بعد ولادته، لأنه نفس إنسانية مستقلة.