خلال اجتماع اللجنة الوطنية لإصلاح أنظمة التقاعد في شهر أبريل من سنة 2014، استنتج السيد رئيس الحكومة أن المركزيات النقابية غير مستعدة للانخراط في هذا الورش، وأن لها اكراهاتها مع قواعدها التي تمنعها من أن تسير في هذا الاتجاه، وقال السيد بن كيران حينئذ أن الحكومة مستعدة لتحمل مسؤوليتها في الموضوع، وأنه يتفهم تلك الإكراهات. جاء ذلك بعد عدة لقاءات ومشاورات، تبين من خلالها أن الحوار في موضوع التقاعد لا يبرح مكانه، وأن المركزيات النقابية تمانع في أن تكون شريكا مسؤولا في هذا الاصلاح المؤلم، وتتهرب من تلك المسؤولية من خلال رفع شعارات من قبيل الاصلاح الشمولي، وضرورة تحمل الحكومة للتبعات المالية لهذا الاصلاح، وإثارة أسئلة بيزنطية حول نهب أموال الصناديق وشبهات تتعلق بحكامة أنظمة التقاعد، وأنه ينبغي محاسبة المسؤولين عنها، ثم قبل ذلك كله وبعده ضرورة ربط إصلاح التقاعد بالحوار الاجتماعي وبالملف المطلبي للنقابات !! فزع ممثلو المركزيات النقابية وأسقط في أيديهم فعبروا عن تمسكهم بمواصلة الحوار ورغبتهم في أن يكونوا شركاء في الاصلاح. تراجع السيد رئيس الحكومة بعد استشارة خاطفة أجراها مع وزير الدولة المرحوم الاستاذ عبد الله بها، وتقرر مواصلة التشاور، وعقد لقاء تفاوضيا للحسم بعد شهر على أساس أن تقدم المركزيات النقابية مذكرات مكتوبة في الموضوع، لولا أن المنية وافت الأستاذ بها كي ينشغل رئيس الحكومة لمدة طويلة بهذا الحدث الجلل. ينبغي أن أعترف بأنني كنت من الذين "ضغطوا " خلال اجتماعات الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية على ضرورة تحريك عجلة الحوار الاجتماعي، وكنت والإخوة في قيادة النقابة نظن أن المسألة تتعلق فقط بأسلوب إدارة الحوار، وأن على رئيس الحكومة أن يوسع " قشابته " مع المركزيات، فالمركزيات النقابية تعودت أن تخرج من الحوار الاجتماعي بمقابل تقدمه لقواعدها، وأن تمرير الاصلاح يحتاج لإجراءات مواكبة تقلل من مرارة الاجراءات المقياسية التي لا مفر منها ولا بديل عنها، كما تبين ذلك كل التجارب الدولية. وأعلم أن بعض المكونات الحكومية عملت في هذا الاتجاه واطلعت بدور مقدر لإعادة الطرفين لطاولة الحوار الاجتماعي، كما أن الحكومة قبلت بعد إحالة مشاريع القوانين ذات الصِّلة وبعد عرقلة مناقشتها داخل اللجنة المالية لمجلس المستشارين بفتح حوار موازي في إطار الحوار الاجتماعي في موضوع التقاعد من أجل الوصول إلى توافق يسهل المصادقة على تلك القوانين في البرلمان !! كنت ممن يرى أن كثيرا من التدابير والاجراءات التي بادرت الحكومة إليها كان من الممكن تمريرها على أساس أنها من نتائج الحوار الاجتماعي، وتقدم في حزمة يتم الإعلان عنها بشكل مشترك أو بطريقة منفردة عند نهاية كل جولة من جولات الاجتماعي إذا لم يحصل توافق معين، كانت منهجية الحوار الاجتماعي التي تقررت منذ 2009 تقتضي أنه بعد كل جولة يتم توقيع محضر يتم فيه الإعلان عن الجوانب التي تم فيها الاتفاق والأخرى التي لم يتم فيها، مع الاشارة إلى انه قد سبق لحكومة عباس الفاسي الإعلان من جانب واحد عن التدابير التي اتخذتها في إطار الاستجابة للملف المطلبي !! الآن ومن خلال العودة إلى مسار الملف والتطورات التي عرفها منذ ذلك الحين إلى الآن، يتبين وفي إطار غياب إرادة لدى بعض الاطراف النقابية، والتسييس الواضح للمطالب النقابية، ان ربط اصلاح التقاعد بالحوار الاجتماعي كان خطأ في المقاربة حيث يُبين تطور العلاقة بين الحكومة والنقابات، فلا الحوار الاجتماعي أفضى الى استفادة الشغيلة من بعض العروض التي قدمتها الحكومة لتحسين دخلها، ولا اصلاح انظمة التقاعد حصل فيه اي تقدم. والواقع انه بالرجوع الى تطورات ملف التقاعد سنكتشف ان هذا الملف قد عمر طويلا في نطاق آلية من اليات الحوار الاجتماعي منذ سنة 2004، اي من خلال اللجنة التقنية التي هي لجنة مشتركة بين الحكومة والصناديق المعنية والمركزيات النقابية، كما انه طرح أكثر من مرة في اللجنة الوطنية دون ان يرى هذا الاصلاح النور! عمرت معضلة التقاعد في تلك اللجنتين المنبثقتين عن " الحوار الاجتماعي «بسبب ان النقابات ظلت تمانع في الإقدام على الاصلاح وتحمل مسؤوليتها فيه، فقالت تارة: لا نثق في الدراسات الابتكارية التي قامت بها مديرية التأمينات، فلنرجع لمكتب دراسات مستقل! وأنجز مكتب الدراسات دراسته وخلص إلى أهمية اصلاحات استعجالية بارامتربة مع التوصية بإصلاح شمولي! قالت النقابات: نحتاج الى خبرة مكتب العمل الدولي وانتهي المكتب الى نفس الخلاصات. اصدرت مؤسستان دستوريتان تقريرين في الموضوع يؤكدان على استعجالية اصلاح نظام المعاشات المدنية، من خلال اصلاحات مقياسية لتفادي نفاذ احتياطياته وانهياره المحتوم، مع التأكيد على الحاجة الى اصلاح شمولي. أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي -الذي هو فضاء اخر للحوار الاجتماعي بحكم تمثيلية النقابات والباطرونا والمجتمع المدني والخبراء -رأيا استشاريا في الموضوع واقترح سيناريوهات للإصلاح ورفضت النقابات الخلاصات والتوصيات التي انتهى اليه المجلس وصوتت ضدها !! وأصدر المجلس الاعلى للحسابات تقريرا أكثر تشاؤما، تضمن توصيات واجراءات أكثر تشددا مما جاءت به الحكومة. وتحججت النقابات بالحاجة الى اصلاح شمولي، وقالت الحكومة نحن مع اصلاح شمولي ووعدت بإخراج قانون إطار يحدد مراحل وآفاق هذا الاصلاح الشمولي !! وتهرب ممثلو النقابات بمجلس المستشارين من دورهم في التشريع، وأرادوا ان يفرضوا على مؤسسة دستورية توجهات من خارجها، اي من خلال الحوار الاجتماعي، وأسهم ذلك في عرقلة وظيفة من اهم وظائف هذه المؤسسة، فلم يميز بعض المستشارين للأسف بين دور "مكتب نقابي" يمارس الاحتجاج ويضغط بعرقلة سير الانتاج للضغط على المقاول من اجل التفاوض والاستجابة للمطالب، وبين دور البرلماني المتمثل في التشريع وفي الرقابة ودوره السياسي في معارضة توجهات المشاريع الحكومية والتصويت ضدها بعد الاجتهاد في تحسينها وتعديلها، وأسهمت بذلك في عرقلة الاصلاح وما يترتب عن كل تأخير فيه من مسؤولية الاجهاز على احتياطي صندوق المعاشات المدنية ومسؤولية عن افلاسه مما يهدد معاشات موظفي الدولة !! علما ان الحكومة حين احالت مشاريع القوانين ذات الصِّلة احالت معها مشروع قانون يهم توسيع التغطية الصحية والاجتماعية لغير الاجراء، وهي احدى التوصيات الواردة في كل التقارير التي تناولت الموضوع بل هي احدى الحجج الذي دفعت بها بعض النقابات من اجل استدامة عمر اللجنة التقنية! وحين واصلت النقابات اصرارها على ربط ملف اصلاح انظمة التقاعد بملف الحوار الاجتماعي، وقبلت الحكومة بالعودة الى طاولة الحوار الاجتماعي، وعبرت عن استعدادها للاستجابة لعدد من مطالب النقابات، خاصة تلك التي تهم الفئات الدنيا، عملت النقابات على رفع سقف مطالبها وطرح مطالب تعجيزية لتصل كلفتها الى 40 مليار درهم حسب ما صرح به السيد رئيس الحكومة !! واليوم وقد بادرت الحكومة وسعت الى تقريب وجهات النظر وجلست الى طاولة الحوار الاجتماعي واستجابت لعدد من المطالَب وعبرت عن استعدادها للتعامل بمرونة مع تعديلات المركزيات النقابية نخلص الى خلاصتين: - المركزيات النقابية او بعضها على الأقل تتهرب من دورها في الإسهام في اصلاح منظومة التقاعد وتتحول الى عامل عرقلة وبلوكاج تشريعي، النقابات توكد انها قد تخلت عن دورها في الانخراط في الاصلاح سواء داخل الحوار الاجتماعي او من خلال المؤسسات التي لها بها تمثيلية كما هو الشأن في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، او من خلال وضعها المؤسساتي بمجلس المستشارين، وعلى الحكومة اليوم وأغلبيتها والفرق البرلمانية الاخرى ان تتحمل مسؤوليتها المؤسساتية من موقع الاغلبية او من موقع المعارضة . - آن الاوان لفك الارتباط بين الحوار الاجتماعي وإصلاح انظمة التقاعد، لان هذا الربط قد أدى الى تعطيلهما معا، مما يقتضي ان تتحمل المؤسسة التشريعية مسؤوليتها وترفض الرضوخ لأساليب عمل يمكن ان تقبل من مناضلين نقابيين في المقاولة او في قطاعات حكومية في دفاعهم عن ملفات مطلبية، او مواجهة الإجهاز على حقوق وحريات نقابية، خاصة وقد أعلن بعض المستشارين النقابيين "اعتصاما" في مجلس المستشارين، في الوقت الذي ينبغي ان يقوموا فيه بدورهم الدستوري، مما يعتبر إساءة لصورة ودور البرلماني ووظيفته ولطبيعة الديمقراطية التمثيلية التي تقتضي وجود أغلبية تُمارس التدبير ومعارضة تُمارس الرقابة، وتطور مقاربات اخرى تؤهلها، إن أقنعت الناخبين بها ان يعطوها اصواتهم في الاستحقاقات الانتخابية والتصويت عقابيا على التدابير الحكومية غير الشعبية !! - ينبغي تفعيل العرض الحكومي على ارض الواقع وعدم الاستمرار في رهنه بمباركة النقابات وبتوقيع اتفاق بين الحكومة والنقابات، وهو ما سبق ان عملت به حكومات سابقة، ذلك ان التعطيل المقصود للحوار يعني حرمان فئات عريضة من الشغيلة، مما جاء في العرض الحكومي من مكتسبات ولا ينبغي معاقبة الشغيلة بسبب مواقف سياسية ومزايدات نقابية، خاصة وقد كشفت بعض التصريحات النقابية أنها داخل في معركة سياسية ضد الحكومة وأنها تستغل الظرفية الانتخابية لابتزاز الحكومة !! وهو امر لا ناقة ولا جمل للشغيلة فيه !! لقد تعلمنا في الممارسة النقابية التعامل من خلال المبدأ القائل: "خد وطالب"، وان على المحاور النقابي تبعا لذلك ان يسعى دوما لانتزاع ما يمكن انتزاعه من محاوره لفائدة الشغيلة، وفي نفس الوقت ان يستمر في المطالبة والنضال من اجل تحقيق المطالَب الأخرى. ينبغي التأكيد ان الحوار الاجتماعي ارادة مشتركة، واصلاح انظمة التقاعد كان من الاولى ان يكون موضوع توافق بين الشركاء الاجتماعيين، وبما ان تلك الإرادة غير متوفرة بنفس القدر عند كل الاطراف فلتتحمل الحكومية مسؤوليتها الأساسية في أجرأة عرضها لفائدة الشغيلة التي تنتظر اي تحسين في وضعها المادي، ولتتحمل مسؤوليتها السياسية في اصلاح منظومة التقاعد، وإيقاف نزيف هدر احتياطات نظام المعاشات المدنية وحماية مستقبل الحماية الاجتماعية، فحساب الاجيال وحساب المسؤولية الوطنية أكبر من حساب المزايدة النقابية !!