انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    هاريس وترامب يراهنان على المترددين    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    الشرطة توقف مروج كوكايين في طنجة    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت وتقارير إعلامية تتحدث عن استهداف هاشم صفي الدين    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    المنظمة العالمية للملاكمة تقرر إيقاف الملاكمة الجزائرية إيمان خليف مدى الحياة    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية        بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    مشروع هام لإعادة تهيئة مركز جماعة "قابوياوا"    "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب        أخبار الساحة    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التكافل كأحد أركان الثقافة العملية للحركة المجتمعية للتنمية‎
نشر في التجديد يوم 10 - 08 - 2005

انتهى المقال السابق المعنون ثقافة الحركة المجتمعية إلى أن ثقافة الحركة التي تطبقها عمليا تحكمها قيم ست هي: التكافل، صلة الرحم، توفير الحاجيات، استثمار الأموال، المساواة وديمومة الإنتاج، وأن لنا عود فيها وتفاصيل، وهنا يتم تخصيص الحلقة إلى أولى هذه القيم الاقتصادية/الإنسانية وهو التكافل.
utilisional ونذكر أن الثقافة العملية، أو ذات القابلية للتحقيق العملي، هي الثقافة التي تحتوي على مضمون عمليoperationel، وفي ذات الوقت استعمالي دون أن ينقصها في ذات الوقت المحتوى الجمالي أو الجانب الروحي. وأن ما تسعى إليه الحركة المجتمعية هو تحويل هذه الثقافة العملية إلى ثقافة مجتمعية إلى جميع أفراد المجتمع، يأخذ كل منهم منها على قدر طاقته وحاجته بنصيب، دون أن يؤثر ذلك على عموميتها، واشاعاتها، و تداولها، أي أنها لا تقتصر على نخبة معينة متخصصة دون غيرها، وإنما يتمثلها الجميع وإن تخصصت طائفة ببعض فروعها العلمية الممتدة من أصلها العام.
واتخاذ القيم الإسلامية سالفة الذكر مرجعية عامة للحركة وثقافتها، وخاصة في أصولها العامة، إنما يستهدف ضمان طهارة المنبع، والذي لايمنعها في ذات الوقت من إمتلاك كليات وجزئيات العلم الحديث، وتحفيز التجديد والاجتهاد والإبداع، خاصة في مجال التطبيق العملي، الذي يستهدف تحقيق المنافع للناس في حياتهم الدنيا، وراحتهم الأبدية في حياتهم الأخرى، مع تأهيلهم في ذات الوقت لتحقيق التقدم الحضري، من مراحل كل منها أفضل من سابقتها مثل كل الأمم التي تقدمت، وامتلكت أقصى ما في استطاعتها من القوة الهادية والمعنوية والرمزية، دون حاجة الى استنساخ نموذج حضاري معين، ودون الانغلاق أيضا عن الإثارة من أي نموذج جيد قائم، وإنما بانفتاح على كافة النماذج الحضارية، شرقا و غربا بهدف إقامة نموذجها الخاص، والذي لا يمكن تحديده مسبقا، دون خوض تجربة البناء، بكل ما تتطلبه من جهد ومعاناة وصبر وعلم و حكمة.
التكافل في التنمية الشاملة
إن استخدامنا للتكافل هنا يتجاوز مفهومه السائد كقيمة أخلاقية تتمظهر في سلوكيات اجتماعية يغلب عليها طابع الإحسان، وتحث عليها قيم أخلاقية أخرى مثل المحبة والرحمة والشفقة وما إليها، إذ ننظر إليه بصفته نظاما للعمل الاجتماعي، يشارك فيه جميع أفراد وأسر وعائلات ومواطني حيز جغرافي أو مكاني واحد، من أجل نفع مشترك يعود على الجميع بالخير والثراء دون إسراف، والرفاهية دون ترف، والقوة بدون طغيان، ويحقق اقتصاديا وفرة الإنتاج وعدالة التوزيع، أي أننا نوظفه كقيمة إنتاجية واقتصادية أكثر منها أخلاقية أو دينية فحسب، ونقيم على أساسه، ووفق مفهومه الجديد البنية التنظيمية للحركة المجتمعية للتنمية، وأحد أسس فلسفتها المتحققة عمليا في واقع نشاطها الاقتصادي أو خلق تراكمها الثقافي الذي يتطلبه نشاطها الاقتصادي، أي التنمية البشرية التي يحتاجها النشاط الاقتصادي.
ويعتمد نظام التكافل اقتصاديا على استمرار لمفهوم أيضا متجاوز للفهم التقليدي السابق للآية الكريمة: (خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين)، بحيث تؤسس هذه الآية الكريمة لممارسة الحركة المجتمعية عمليا للتكافل اقتصاديا و ثقافيا، أو تتخذ منها الأصل الذي تتفرع منه سياستها في تطبيقها للتكافل.
وإذا كانت الآية الكريمة: (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة 71) تضفي الشرعية على التوجه نحو التكافل وتجعله واجبا ربانيا، فإن آية: (خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين) ، تعتمد سياسة الحركة المجتمعية للتنمية على حث وتنظيم وتعظيم العفو واستمراره في إنتاج الخيرات و الثروات، وينطبق ذلك على العفو بأنواعه، سواء كان عفو مال أو عفو جهد بدني، عفو جهد ذهني، وفي ذات الوقت الأخذ بالعرف والأمر به والعمل به، كمعرفة عالية وذات جدوى اقتصادية مؤكدة، وسواء كان العرف مما هو معهود لدينا، مؤخوذ من تراثنا الحضاري أو مازال معمولا به في مجتمعاتنا الحاضرة، أو عرف مشهود و منشود، مشهود لدى غيرنا، و منشود لنا، ومفقود في ذات الوقت لدينا، ونحتاج إلى الأخذ منه، والعمل بما يفيدنا منه، وفي أخذنا للعفو، وعملنا بالعرف، نعرض عن نجوى جهل وجدل جاهلين، لو خضنا معهم فيه لأضلونا عن سوء السبيل، وأضعنا الوقت عما هو أجدى وأنفع.
أولا: حشد العفو واستمراره وتعظيمه
أ عفو المال: يتطلب الاستفادة من عضو المال واستثماره وتعظيمه تحفيز الأسر المشاركة في الحركة على الحد من الاستهلاك والإسراف إلى أدنى حد بالنسبة لكل أسرة لكي تتمكن من تحقيق وفر نسبي او مدخرات، تزيد عن إحتياجاتها النسبية، و التي قد تختلف من عائلة إلى أخرى اعتبارات اجتماعية شتى، وبحيث تتمكن من استمرار هذا العفو داخل المؤسسات الاقتصادية للحركة المجتمعية بما يعود عليها بالنفع في حاضرها، ويؤمن دخلائها ولأولادها في مستقبلها، بالإضافة الى ما يستوجب عليها شرعا توجيهه لصالح الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وذوي المقاوم وغيرها من مصارف الزكاة أو مستحقي الصدقات مما قرره الشارع في مجال التكافل الإسلامي الواجب.
ب عفو البدن: تتم الاستفادة من عفو البدن كما وكيفا عن طريق ما يلي:
1 توجيه الطاقة البدنية المتاحة لبذلها في العمل المنتج والنافع وادخاره له، عوض إنفاقه فيما لا نفع فيه، مع التماس الاعتدال في إنفاقه فيما دون إرهاق أو إسراف، ودون تقتير أيضا أو ركون إلى كسل، إذ لا يكلف الله إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، بجوارحها وجهودها.
2 من حيث الكيف: تحسين الصفات الوراثية السلبية، مستعينين بكافة الأساليب العلمية في هذا الشأن، بالإضافة إلى تأمين و تحسين التغذية لتفي باحتياجات الجسم، وسبل الوقاية من الأمراض والعلاج منها، وتقوية الأبدان بالرياضات البدنية المناسبة، بما يزيد من حجم الجهد المبذول في الإنتاج.
ج عفو الجهد الذهني: إن الإمكانات الذهنية تقاس بالكيف، أكثر مما تقاس بالكم، و أكثر ما يملكه الفرد منها، ويزيد عن حاجة حياته الخاصة، يعد عفوا يحتاجه العمل الجماعي التكافلي الاقتصادي والثقافي، ويحتاج تنظيم العفو الذهني من حيث الكيف إلى إتاحة الوسع للفرص المتكافئة نطاقا للإفادة من المعرفة العملية التي يستفيد منها الفرد في حياته الخاصة والمهنية، وكذلك في استثمارها من نطاق العمل الجماعي، وكذلك الارتقاء بمستوى التربية والتعليم إلى الحد الأقصى الممكن وتحفيز الإبداع والابتكار والبحث العلمي التقني لتأمين تقنيات ملاءمة في جميع القطاعات و الميادن الإنتاجية.
ثانيا: الأعراف المأمور بها
إن الامر بالعرف في مفهوم و نهج الحركة المجتمعية للتنمية يتمثل في كيفية توصيل العفو أو الفضل أو المدخرات سابقة الذكر في الإنتاج بما هو معروف لدينا أو معروف لدى غيرنا من وسائل ثبت بتجربتها أهميتها و جدواها في حقل العمل الذي اتخذته الحركة مجالا لنشاطها.
ويمكن القول إن من حسن الحظ أنه ما زال لدى مجتمعاتنا الإفريقية أعراف متوازنة تعد تطبيقا عمليا معهودا لمبدأ التكافل بمعنى العمل الجماعي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد في السودان ما يعرف بالنفير، وهو نداء تنشره إحدى العائلات في القرية لاستفسار وحشد جميع قوى العمل الحية في القرية لمعاونتها في أعمال الحرث و البذر أو السقي أو الحصاد حسب حاجاتها الموسمية، فيلبي الجميع النداء، ويقضون في ضيافة العائلة التي استنفرتهم يوما أو بعض يوم أو أكثر في قضاء حاجتها، وفي اليوم التالي تطلق عائلة أخرى النفير، وهكذا دواليك، إلى أن تقضي كافة العائلات في القرية حاجاتها.
وتوجد أمثلة أخرى معهودة لدى العديد من مجتمعاتنا، خاصة القروية منها، تتكافل فيه جميع عائلات القرية في المناسبات المرتبطة بالفرح والترح، لتخفيف العبء على العائلة التي لديها عرس أو وفاة أو ما شابه ذلك، ففي المناسبات المفرحة تنفر جميع العائلات لتقديم الهدايا والمساعدات الممكنة لكي تمر المناسبة في أحسن الظروف.
وفي الحالات الحزينة والمرتبطة غالبا بحالات الوفاة، وحيث يتوافد على أهل المتوفى من القرى القريبة والبعيدة أقاربهم وأصهارهم ومعارفهم للعزاء، ويكون أهل المتوفى مشغولين بمصابهم بما يحد من قدرتهم على قرى الوافدين عليهم، فإن كل أهل بيت القرية يرسلون أحدهم حاملا صفحة طعام لبيت المتوفى، حيث يدعو كل منهم بعض الضيوف لمشاركة الطعام.
بل كنا نرى هذه الظاهرة أحيانا، عندما يأتي إلى إحدى الأسر في القرية ضيفا من قرية أو من مدينة نائيا لزيارتها ، فيتسابق أهل القرية لدعوته إلى الغذاء أو العشاء حتى لا تكاد تنتهي مدة زيارته إلا ويكون قد دخل جميع منازل القرية وقوبل فيها بكل كرم وحفارة.
والنظام التعاوني الإنتاجي أو الاستهلاكي، هو في واقع أمره نظام تكافلي، وكذلك المزارع الجماعية في الدول الاشتراكية السابقة.
وهذه الصور التكافلية المعهودة في بعض مجتمعاتنا الإفريقية والمعمول بها منذ القدم، والتي تمثل في ذات الوقت ثقافة مجتمعية عملية أو انتروبولوجية اجتماعية وثقافية في آن واحد، يمكن تطويرها وفق متطلباتنا الجديدة أو العصرية و الإفادة منها، وتعميمها وتوسيع نطاقها، وبعثها من جديد في المجتمعات التي أهملتها أو تراخت في الأخذ بها وتطبيقها، رغم أنها مازالت في أمس الحاجة اليها.
ويأتي بعد ذلك الأعراف المشهود بصلاحيتها لدى الغير، وينقصنا الإفادة منها والعمل بها، رغم توافقها مع قيمنا وثقافتنا وحاجتنا إليها لتنمية اقتصادياتنا ومجتمعاتنا، بعدما أثبتت في المجتمعات الأخرى كفاءتها ومزاياها، سواء كانت تلك المجتمعات آسيوية أو أوروبية، من المجتمعات التي تقدمت اقتصاديا وحضاريا في القارتين، وفيها الكثير خاصة الآسيوية منها ما يوافقنا.
وعندما نبدع نسقا إنتاجيا تكافلا يستفيد من هذه الأعراف الأجنبية، لا يعني أننا ندخل في سياق تجريب مجهولة نتائجه، التي يفضي إليها، وإنما يعني أننا وفرنا عوامل النجاح للنسق، الذي أبدعناه بما يكفل تحقيق كل أو معظم ما ننشده منه، طالما أن هذا النسق المنفتح، المتعددة مشاربه، يجمع أفضل ما لدى الغير وأقومه سبيلا.
إن القيم والعادات والتقاليد الفاسدة المستحدثة أو الموروثة عن أزمنة الانحطاط الحضاري، لا تدخل ضمن الأعراف التي تستوجب منا الأخذ بها أواحترامها أوالعمل بها، فهي لا تدخل ضمن أعراف العارفين بالله وبالحق، بل يتعين علينا نبذها وتخليص مجتمعاتنا منها، واستبدالها بالأعراف الصالحة التي تمكن مجتمعاتنا من التوصل بها إلى التقدم المنشود.
ثالثا: الإعراض عن الجاهلين
الجاهلون في ثقافة الحركة المجتمعية للتنمية لا ينحصرون في الأميين أبجديا، بل قد يتوفر لبعض الأميين أبجديا، أو من لهم حظ قليل من التمدرس من لديهم من المعرفة المفيدة، والإيمان والتقوى الفطرية ما لا يتوفر لسواهم، بينما نجد من الجاهلين بعض الذين تلقوا تعليما في المدارس والجامعات، أو من حصلوا على ألقاب علمية، أو يحسبون في عداد المثقفين والكتاب أحيانا، بينما هم في واقع أمرهم ليسوا أكثر من دجالين ومنافقين، لا يتوفرون على علم أو ثقافة مفيدة، ومنهم من ينطبق عليه المثل القرآني: مثل الحمار يحمل أسفارا، دون أن يستفيد مما يحمله أو يفيد.
إن الثقافة العالمة التي تتبناها الحركة وتعول عليها، هي تلك القادرة على نقل المجتمع من الفقر إلى الثراء، ومن التخلف إلى التقدم الحضاري، ومن البقاء إلى هامش الإنتاج إلى الاندماج والمساهمة الفعالة فيه.
منذ انتهاء الحقبة الاستعمارية، اتسع نطاق التعليم في كافة الدول الإفريقية، ومنها ما كاد يتخلص من الأمية، ومنها ما بقى نصف السكان فيها يرزح فيها، إلا أنه في جميع الحالات دخل المذياع والتلفزة إلى كل بيت تقريبا، ونشطت المطابع تخرج كل يوم كتبا أو صحفا أو مجلات، فضلا عما تشهده بعض هذه الدول من ندوات ومهرجانات ومؤتمرات توصف بالثقافية من حين لآخر... ورغم هذا التزاحم من تبادل في الأفكار أو استهلاكها، وتعدد وسائل البث والنشر لها، ظلت أوضاع البلدان الإفريقية تزداد سوءا وفقرا وتخلفا وتبعية، واستمر أمنها مكشوفا وثرواتها منهوبة، وانتشر في أرجائها الفساد والجريمة والبطالة وجميع الموبقات، وما نفعها فكر متداول، أو تعليم في المتناول، أو ثقافة مرعاة، بل يمكن القول إن ثقافة النهب والأنانية والرذيلة، هي التي سارت فيها على جميع المستويات، وأضحت هي الثقافة المجتمعية المسيطرة على سلوكيات النخب والعامة سواء بسواء،
والتقييم المنصف لحصاد العقود التي أعقبت الاستقلال، والنقد التالي النزيه لما آلات إليه أوضاع العديد من الدول الإفريقية، ينتهي إلى الحكم بأن الثقافة الشائعة في هذه المجتمعات، هي في حقيقة أمرها ثقافة جاهلة، وتساهم في التغييب والتجهيل وتغييب وعي الجماهير بما يصلح حاضرها وينفعها في مستقبلها، حتى وإن ارتدت هذه الثقافة ثوبا عصريا زائفا، وأكثرت من الحديث عن الحداثة والديموقراطية وحقوق الانسان و المواطنة وحقوق الانسان والطفل، وهي أحاديث أدمنتها النخب دون وجود إرادة جادة وحقيقية لتطبيقها عمليا، وليس الاكتفاء بالثرثرة أواستعمالها للمزايدة بها لتحقيق مكاسب ذاتية أو فئوية.
إن الحاضر في الثرثرة والغائب عن الواقع هو إيجاد مشروع مجتمعي عملي تلتقي حوله الشعوب وتقوم بتنفيذه، وهذا الغياب هو الذي يفرض الحركة المجتمعية ذات الثقافة المغايرة لكي تحقق على أرض الواقع المشروع المجتمعي المفتقد والمنشود في ذات الوقت، والذي يعد حضوره لملء الفراغ هو في ذات الوقت بمثابة إعراض عن الجاهلين، وتحرر من جهلهم وغيبهم وضلالهم وتضليلهم.
وإن امتناع شعوبنا المتزايد عن المشاركة السياسية أو عن اقتناء الكتب والصحف والمجلات، والذي يعتبره مرتزقة السياسة والثقافة والإعلام ظاهرة سلبية، نعتبره ظاهرة ايجابية تدل على اجماع شعبي على الإعراض عن الجاهلين، وسيزداد هذا الإعراض، دون حاجة إلى الدعوة إليه، عندما تجد الشعوب نفسها في خضم سياسة وثقافة واعلام ينشد المعرفة العلمية الصالحة للتطبيق العملي النافع لها، والتي تجد له مردودية سريعة مباشرة وغير مباشرة تصلح من أحوالها، وخاصة في المجال الاقتصادي الذي تتوفر له مقوماته ومدخلاته وأهمها الثقافة العالمة والعالمة التي يتبناها تعليم واعلام جديد، يدل أن الحداثة الحقيقية، هي تحديث للبنيات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ليس بالشعارات وإنما بالعمل المنتج المثمر ذي العائد النافع، والمتسم بالجدية والاستقامة والديمومة والأمانة والإخلاص والإيثاروكافة المتطلبات التي لا غنى عنها للعمل الجماعي التكافلي الذي يسخر الجميع من أجل الجميع ولخير الجميع ومن أجل إعمار الأرض واستخلافهم فيها على النحو الذي أراده الله لهم، وليس على النحو الذي أرادته أقلية جاهلة متحكمة فيهم ومن حاضرهم ومستقبلهم وأرزاقهم وتحجب
عنهم رحمة الله .
والإعراض عن الجاهلين لا يعني مقاطعتهم أو استنصالهم أو نبذهم، أو الدخول في صراع مفتوح معهم، وإنما الابتعاد عن لغوهم وجدالهم وما يشغلون به الناس من قضايا زائفة عن قضاياهم الحقيقية، أو مشاركتهم فيما يخوضون فيه حتى ينتهون منه، وذلك إعمالا لقوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالو سلاما) أي مهما استفزهم الجاهلون واعتدوا عليهم، ورموهم بالإفك، او استخدموا معهم فحش القول وأرذله، حافظ عباد الرحمن معهم على السلم الاجتماعي، ولم يستجيبوا لاستفزازهم، أو يعبأون بترهاتهم، وهذا هو المقصود بالإعراض عنهم، فالحركة المجتمعية للتنمية هي ثورة سلمية، تنحصر ثوريتها في التغيير السلمي والهادئ لأحوال المجتمع مما هو سيء إلى ما هو حسن وجيد ومفيد، مع وعي كامل، وإدراك تام، من أنه بدون زيادة مناخ الاستقرار والسلم الاجتماعي لا يمكنها أن تحقق أهدافها.
التأليف بين الاقتصاد والاعتقاد
وتجمع الحركة على هذا النحو بين متطلبات الاقتصاد وسلامة الاعتقاد، وبين المادة والروح، وعن الدنيا وثواب الاخرة، حيث كل ما ينفع الناس هو في سبيل الله ومنه وإليه، وهي الثقافة المجتمعية ذاتها التي كان عليها أجدادنا من الصابئة الفراعنة، أو من المسلمين في العصور الوسطى التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية بينما كانت أوربا غارقة في الظلمات.
وهذه التوليفة من ثقافة الحركة المجتمعية بين الاقتصاد والاعتقاد، تستمد مشروعيتها أيضا من كتاب الله، حيث يبدو ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) ( الحج 7,6)، ويقول الله تعالى أيضا: (وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) (الأعراف57)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم معززا لهذه الآيات: ولو توكلتم على الله حق توكله لرزكم كمايرزق الطير تغدوخماصا وتروح بطانا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.