صعب لعمري أن تعمل مع شابات وشبان لا يعجبهم العجب، ويتنقلون في حياتهم من غضب إلى غضب، كالنائحة التي تترقب مناحة تشيع فيها تهمها في البكاء أو التباكي على الميت الذي لم تلتق به في حياتها قط، فما أن صرح وزير بأنه سيبادر إلى إقامة حفلة راقصة، وليس مأتما، إذا ما علم بقرب منيته حتى ظهر على وجوههن ووجوههم علامات الغضب، وما أن راحت المدائن تعلن الواحدة تلو الأخرى عن إقامتها مهرجان للغناء والرقص حتى غضبوا، ولست أدري شيئا عن سبب سوء التفاهم بينهم وبين الرقص عامة، وبين الرقص ما قبل الموت خاصة، فالحقيقة أن إقامة المدن للمهرجانات الراقصة، يؤكد أن تصريح الوزير بشأنحفلة ما قبل الموت يندرج في سياسة عامة يتبعها بأمانة و دقة، وليس في الأمر نسق أوجنوح أوجموح شخصي، فإذا كان الشعب يموت من فقسة الفقر والبطالة والمهانة، فنقيم له مهرجانات يرقص فيها و ينسى همومه و الموت الذي ينتظره، فعندما يطبق الوزير هذه السياسة العامة التي يشارك في تنفيذها على نفسه، فهذا ذروة الالتزام الأخلاقي، وبين العام والخاص في السياسة، والأولى بين كل من ينخرط في السياسة، والصحفيات والصحفيون يفترض أنهم في قلبها، على هؤلاء جميعا، أن يرقصو، وليس بالضرورة الرقص على الحبال مثل السياسيين المحترفين، فللرقص أنواع كثيرة، يمكنهم اختيار ما يناسبهم منها، ولابأس من الإقبال على الرقص وتعلمه من خبيرة أو خبير فيه، لا اظهار الغضب حسدا، أو لتغطية العجز عن أداء الرقص والجهل بفنونه وطقوسه. والرقص يوجد في طقوس الصوفية الطرقية، وتعتبره يندرج ضمن الذكر والعبادة، فإذا كان المسلمون يذكرون الله وقوفا وقعودا وعلى جنوبهم، وتراهم في عبادتهم ركعا سجدا، فالصوفية الطرقية تعبده راقصة. ولذا، فإن الدولة تدعم الطرقية وتدعم أيضا الرقص، حتى تثبت أنها قائمة، عابدة، قانتة، تهتز. أذكر في صباي أنه كان في قريتنا ثلاثة أو أربعة أفراد من شباب القرية يكونون فرقة لإحياء الافراح بتقديم اسكتشات لإضحاك المدعوين، وكانوا يكررون نفساسكتشات في كل عرس، وواحدة منها كان يتضمن فقيه يرتدي العمامة والجبة والقفطان مثل شيوخ الأزهر في مصر، ويتكلم الفقيه طول الوقت بتؤدة ووقار وحكمة، ومع ذلك كان كل ما ينفلت من فمه يضحك المدعوين، وفجأة يرتفع صوت الطبول والمزامير، فإذا بالشيخ الوقور ينزع عنه القفطان ويلقيه جانبا و يبدأ بالرقص، وينبه باقي أفراد الفرقة بقولهم: من رقص نقص شيخنا، فيواصل الرقص ولا يأبه بهم وإنما يرد عليهم: وايه يعني لذلك اعتدت كلما جاء زميلاتي وزملائي في الجريدة بنبأ يتوقعون مني مشاركتهم الغضب فيه، أهز كتفي وأقول لهم: وايه يعني، وأتركهم يموتون بغيظهم. ولكنني ذات يوم سولت لي نفسي أن أدفعهم الى الرقص دفعا، فانتهزت فرصة أن مدير الجريدة مشغول في البرلمان، ورئيس التحرير ليكمل دراسته في الخارج، ومسؤول الشؤون الدينية في سفر، وادعيت أن ذلك اليوم يوافق عيد ميلادي، وأحضرت كمية كبيرة من المرطبات، وسيديهات موسيقى راقصة القمتها أجهزة الكمبيوتر، وأوعزت اليهم أنهم طالما ترتدي الفتاة والفتى ملابس محتشمة، فلا خير ولا إثم عليه إن رقص، وتفنن في رقصه، وكادت الامور تسيرحسب الخطة، لولا ان أحد عيون وآذان مدير التحرير غافلنا وهاتفه مبلغا إياه بأننا حولنا جريدته الى مرقص. وبعد أن بدأت بنفسي وتحزمت استعدادا للرقص حتى يتبعني الزملاء والزميلات، إذا بالسيد المدير يقتحم علينا الباب فوق جواد أشهب، ويلبس ملابسة بيضاء و عمامة كبيرة بيضاء، ويشهر في يده اليمنى سيفا براقا، وفي يده اليسرى سوطا، فما إن رآه الجميع في هذه الهيئة حتى هربوا واختبأ كل منهن ومنهم، تحت مكتبه، وحيث ليس لي مكتب من دونهم، فلم أجد ما أختبئ فيه سوى أحد الصناديق الورقية التي يرصها ويكسو بها زميلنا أحمد جدران الأرشيف، حتى تظن إذا ما دخلته، أنك في أحد فروع أودربي المملوكة للوزير الأول، والتي يقدم فيها جزاه الله خيرا عن احسانه حذاء لكل مواطن بأجر رمزي لا يتجاوز الالف درهم للحذاء الواحد. المهم... وجدت صندوقا نفذت الى داخله من فتحة في واجهته، وما إن شعرت بالنجاة من سيف المدير، وهو غير سيف بن ذي يزن، حتى وجدت داخل الصندوق فأرا، ولا يوجد في الدنيا مخلوقات يقشعر منها بدني غير الفئران، وزادت المصيبة عندما اقترب الفأر مني ووثب على كتفي، ورأيته ينظر الى أذني بنهم، و أيقنت أو هكذا أوهمني رعبي بأنه ينوي قضم أذني، وقد يغريه طعمها أن يحفر سردابا داخل رأسي، يلتهم في داخله عقلي... لم أحتمل صرخت... وسمعت زوجتي تسألني: هل هو كابوس جديد؟ لم أشأ أن أمنحها فرصة الشماتة بي... أجبتها لا رأيت السيد المدير في شبه الهيئة التي يرى فيها أناس العدل والاحسان سيدهم عبد السلام... يرتدي أبيض في أبيض ووجهه كالبدر المنير. قالت: اللهم اجعله خيرا... بينما رحت أتمتم: هذا ما جناه الرقص علي وما جنيته على أحد.