لم يكن قرار السيد وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بسلا، حينما سيق إليه العالم الشاب الشيخ حسن الكتاني، صباح خامس فبراير المنصرم، نابعا عن عبثية واعتباطية ومجازفة، وهو يأمر برد محاضر الضابطة القضائية إلى الشرطة القضائية التي أنجزتها، لتعمق بحثها، وتؤسس ما ترمي إلى الاشتباه فيه، على أرضية صلبة، من دلائل وحجج. السبب بسيط، هو أن السيد وكيل الملك كان وقافا عند القانون، واستنكف أن يشتط بسلطته تعففا أن ينهب ولو دقيقة واحدة من حرية مواطن، أو يشهر في وجهه اتهاما، ولا سند له إلا تلك المحاضر الأفرغ من فؤاد أم موسى. وكان على العالم الشاب أن ينتظر من الصباح إلى العاشرة ليلا، انتهاء معركة خفية بين إرادتين: إرادة تتشبث بسلطتها في تطبيق القانون، وإرادة لا تعير اعتبارا لحواجز القانون، فتستبيح حريات المواطنين، وحسما للصراع دون غالب ولا مغلوب، يبيت العالم الشاب في ضيافة الشرطة بغطاء قانوني هذه المرة هي الحراسة النظرية وتبيت معه الشرطة القضائية في عناء ومكابدة وسهر، من أجل إعادة الاستنطاق، وتظل مكدودة طيلة النهار الموالي بإجراءات التفتيش، واستنطاق معتقلين جدد من رواد مسجد مكةبسلا، حيث كان الكتاني خطيب جمعة، بحثا مضنيا عن دليل اتهام يدين العالم الشاب ويغل يديه، قد تفلح لجان تفتيش العراق، في الوصول إلى إبرة، ولا يبلغ البحث المعنى مبلغ مثقال ذرة من شبهة. وفي سابع فبراير، ومن الساعة الرابعة بعد الزوال، ساعة تقديم الشيخ حسن الكتاني ورفاقه إلى النيابة العامة، إلى الساعة العاشرة ليلا، كان على الجميع، عائلات المعتقلين، وطاقم المحامين، والرأي العام المتتبع محليا وخارجيا، أن تنتظر كيف ستحسم المعركة مرة أخرى بين إرادتين على طرفي نقيض. ويصدر القرار مدويا مجلجلا بالحق، مفعما بالثقة في القانون، والجرأة المستمدة من سلطة تطبيق القانون، بالافراج عن المعتقلين، وعدم استنطاقهم. ومن وراء أسوار المحكمة، كانت الجموع الغفيرة تضج بصخب عارم من الفرح والابتهاج ليس فقط بسبب الإفراج عن ذويهم، ولكن أيضا إعرابا عن ارتياحهم لقرار شجاع ضمن المشروعية وحمى حقوق حريات المواطنين، وكرس استقلالية القضاء، حكما كان أم سلطة اتهام، وبعث الثقة في أن للعدالة فرسانها وأن للحق رجاله. لكن عرس الاحتفاء بالعدالة ورجالها لم يدم طويلا، في بيوت عائلات المفرج عنهم، حيث جابت شوارع حي وادي الذهب، حملة مفاجئة وخاطفة ليلة ثالث عيد الأضحى، لتنتزع المفرج عنهم من أحضان أسرهم، وتلقي بهم أمام الوكيل العام وقاضي التحقيق، ملبسين تهما جنائية، في نفس القضية التي حفظها وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية، ورفض الالتفات إلى ترهاتها والذين أصروا على أن تكون للعالم الشاب حسن الكتاني قضية، ولم يسررهم موقف القانون مما أصروا عليه، أقاموا الدنيا وأقعدوها، لكي ينام الكتاني على إسفلت زنازن سجن سلا. ويظل الشيخ الكتاني بهدوء وتؤدة وبطلعته البهية يرقب التشنجات والتخبطات والهم الكبير الذي غشي القوم، فغشاهم عن لحاظ عواقب تصرف غير محسوب. هدوء وتؤدة، ورثها عن سمت البيت العريق الذي ينتسب إليه، والذي شهد التاريخ له انخراطه في الأحداث العظيمة للأمة في المغرب والمشرق فقط من مشكاة ذلك الهدوء الأخاذ، والتؤدة النافذة. ولأن هيبة القانون أصبحت في الميزان، وأن أقداما طليقة من دون رقيب، تجاوزت الخطوط الحمراء، حينما لم تتحرج أمام حريات المواطنين وحقوق الإنسان، فوطئت مربع الأرض المحرمة، المعبأة بالألغام، وتوشك مغامرتها أن تأتي على ثوابت ومرتكزات وتقاليد جعلت من البلاد واحة أمان. لأن الأمر كذلك، فقد كان الدكتور الخطيب من أكبر الرافضين لما آلت إليه الأمور، مرتدة نكوصا إلى الخلف، ليس محاباة لأسرة علم يعرفها المغاربة والمشارقة كنار على علم، وليس تحيزا لرجل فكر ودعوة إسلامية، اشتهر وهو في حداثة سنه في الأوساط الإسلامية والعلمية والفكرية والإعلامية. ولكن لأن اعتقال حسن الكتاني هو اعتقال عالم شاب كان يقوم بوظيفته العلمية والوعظية والتربوية على مرأى ومسمع من السلطات، ومراعيا كل الشروط القانونية والمذهبية، ومأذونا له من المجلس العلمي للرباط وملتزما بأخلاقيات العلماء في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. ولأن اعتقال حسن الكتاني، هو اعتقال رجل رأي وفكر كان يجاهر بنبذ العنف، ويرشد الشباب، وينور التصورات، دفعا لكل غلو أو تشنج أو توتر أو رد فعل، وخطبه لازالت شاهدة على توجهه. وهو اعتقال رجل الغيرة على قضايا الأمة الإسلامية والعربية، شأنه شأن نخب وطلائع الأمة العربية والإسلامية ورجالاتها الفكرية والسياسية والدينية الرافضة لكل المخططات الرامية إلى إجبار الأمة على أن ترسف في أغلال الخسف والهوان. ولقد علم الذين أثاروا على العالم الشاب، وبعض رواد مسجده السابق، هذه القضية، الأوهن من بيت العنكبوت، موقفه المستميت بالحجة والدليل والسند العلمي المؤصل من مذهب الإمام مالك في التصدي، وتسفيه بعض الأفعال المعزولة التي اقترفها أفراد محدودون، سبق لهم أن خالطوا بعض مجالس الدروس الملقاة في المساجد وجنحوا إلى ما جنحوا إليه من اعتداءات معدودة على حقوق بعض المواطنين في أمنهم وسلامتهم، وبعض ممتلكاتهم. ولقد لاقت هذه الأفعال وكل ما يحيط بها من تصورات مغالية، هجوما شديدا من قبل الشيخ الكتاني، وعلانية وعلى رؤوس الأشهاد بالدروس، والحوارات العلمية والإعلامية، والتصريحات الصحفية، بلغة الضاد العربية وباللغات الغربية. وتلك كانت قناعاته، التي لم يكن يروم من خلالها التزلف إلى طرف ما، أو مجاراة موجة ما، أو البحث عن حظوة ما، بقدر ما كانت نابعة من منهج علمي وفكري رصين يسير على منواله العلماء الراشدون، الذين يخدمون المصالح العليا والكبيرة للأمة، ويستصغرون جزئيات التشرذم والفتنة، وسار على هذا الدرب أباؤه وأجداده العلماء الذين بلغوا شأوا كبيرا في الذود عن حياض المغرب، وحماية بيضة الإسلام، ومواجهة الاستعمال الصليبي الفرنسي والإسباني. ففي سنة 1960 أحد أجداد الشيخ حسن الكتاني من العلماء المجاهدين الذين قاتلوا جيوش الاستعمار في حرب تطوان، وهو العالم إدريس بن الطائع الكتاني، ولم يرض بعد أن سقطت تطوان سليبة في يد الإسبان بغير الأسر بديلا، وبقي أسيرا إلى أن افتدي من لدن المسلمين. ورقي ابنه العالم جعفر بن إدريس إلى نفس مرتبته، فأصبح مستشارا ملازما للمولى الحسن الأول، وكان عضده الأيمن في بث الفتاوى الداعية إلى الدفاع عن المصالح المغربية ضد الأطماع الأجنبية، وإلهاب حماس المسلمين لجهاد الصليبيين المتربصين بالبلاد لافتراسها واحتلالها. وفي سنة 1908ف جد الشيخ حسن الكتاني لأبيه، وهو العالم محمد بن جعفر الكتاني، الكتاب التاريخي "نصيحة أهل الإسلام" وهو بمثابة تحليل علمي لعوامل سقوط الدولة الإسلامية وعوامل نهوضها. وكان يحرض به صاحبه، الأمة المغربية جمعاء كي تستميت دفاعا عن البلاد في وجه الغزو الاستعماري القادم، وظلت "النصيحة" مرجعا إيديولوجيا ملهبا وملهما لكل ثوار التحرير في وجه الاستعمار، واتخذت منها الخلايا الأولى للحركة الوطنية إنجيلا للتعبئة والعمل، وعندما توفي الشيخ محمد بن جعفر الكتاني بتاريخ 19/1927ردت كبريات الصحف الفرنسية النبأ، بالبنط العريض: "لقد مات أكبر عدو لفرنسا بالمغرب". وفي نفس العهد كان الهم الكبير لأحد أجداد حسن الكتاني لأمه وهو الشهيد محمد بن عبد الكبير الكتاني، هو أن لا يسقط المغرب فريسة الاستعمار الأجنبي، ومساهمة منه في تحصين البلاد، أسس طريقة صوفية نشرها في الأوساط الأمازيغية، إضافة إلى عمله الدؤوب في فاس العاصمة إلى جانب العلماء في تثبيت أركان الدولة لتمنيعها من الخضوع للاستعمار، لكن دهاة الاستعمار اخترقوا البيت المغربي وبثوا الفتنة والشقاق. وبعد استشهاده بثلاث سنوات، وهنت البلاد، وفرض عقد الحماية، وقال عن استشهاده قائد الثورة الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقد كان من تلامذته: >لقد اقترن استشهاد هذا العالم الجليل باستشهاد أمة كاملة وهي أمة المغرب، كما هو معلوم عند كل أحد من المغاربة المعاصرين مثلي للشيخ الشهيد، وللقضية بأكملها". وقد ظل تلامذة الشهيد بن عبد الكبير الكتاني ومريدوه ومنهم القائد الأطلسي موحا أوحمو الزياني، يقاتلون الاستعمار إلى آخر رمق لهم. وعلى نفس النهج سار جد الشيخ حسن الكتاني وهو الشيخ المنتصر الكتاني، الذي كان من أكبر علماء المشرق، وتخرج على يديه نخبة العلم والفكر، وعمل إلى جانب الملك الصالح الراحل فيصل بن عبد العزيز مستشارا، ورغم حظوته الكبيرة في الشرق، رفض منحه أي جنسية عربية، اعتزازا منه بجنسيته المغربية وتشبتا بها، وربى على هذه العقيدة أبناءه، ومنهم والد حسن الكتاني، وهو المرحوم الدكتور علي الكتاني رجل القضايا الكبرى في العالم الإسلامي، والسفير المتجول غير الرسمي، الذي بدأ أولى اهتماماته ودراساته الأولى باللهجة الأمازيغية، وحصل فيهاعلى شهادة دراسية عليا، ثم رحل إلى أوروبا فحصد شهادة علمية في الطاقة النووية من جامعة لوزان، وحصل على شهادة عليا في الطاقة الشمسية وألف كتبا باللغة الإنجليزية في نفس الميدان أصبحت مراجع في الجامعات الغربية. وكان من أوائل اللبنات العلمية في التدريس بالمدرسة المحمدية للمهندسين، وأيضا كان من منشئي جامعة البترول والمعادن في المملكة السعودية. وانتخب نائبا لرئيس تعاونية البحر الأبيض المتوسط للطاقة الشمسية، وعضوا في اتحاد مراكز الأبحاث العالمي في السويد. وعمل مديرا عاما للمؤسسة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا والتنمية التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وكان سببا في انضمام دولتين من أمريكا اللاتينية إلى منظمة المؤتمر الإسلامي هما سورينام وكويانا، ونشط في التقريب بين المذهبين السني والشيعي. وكان آخر اهتماماته: الأندلس، التي أسس فيها الجامعة الإسلامية بقرطبة إلى جانب صفوة رجال الفكر والسياسة في العالم العربي، وأصبح رئيسا لها، ونفذ برسالته العلمية إلى قلب كبريات العائلات الارستقراطية الإسبانية. وكان يحقق في وثائق تفيد عن وجود المغرب المسلم في أمريكا قبل كريسوف كولمب واكتشافه، أي منذ عهد المرابطين، وقد وافته المنية في ظروف غامضة فقدت الإنسانية بوفاته أحد الروافد العزيزة في الفكرة الإنساني. والبيت الذي ورثه حسن الكتاني من والده، كان ملتقى رجال الدين، ورجال السياسة، ورجال الفكر من كل الأطياف، رسميين وغيرهم، غربيين ومشارقة، وحافظ الشاب الوريث على تقاليد البيت ولم يخرج عن مدرسة الانفتاح والتعدد والاستقبال ولم يشذ عن تقاليد الهوية المغربية، مظهرا ومخبرا. حتى إنه اختار أن يعود إلى الزي المغربي التقليدي للعالم الشرعي: العمامة والجلباب. واختار أن يعمق دراساته الفقهية في المذهب المالكي، دون أن يغمط نفسه حقها من تكوين نفسه بثقافة الغرب ولغة الغرب. أفبعد هذا كله، بأي شبهة يوصم العالم الشاب؟ إن العلماء في تاريخ المغرب سد منيع لتحصين الأمة، فلمصحة من يثلم جدار المناعة؟ ذ. عبد الله لعماري