لطالما شكل الوقوف على آخر مراحل القيادة وشكل نهايتها، محط اهتمام الأجيال، ذلك أن تلمس الموقف الأخير للقيادة يسجل علة وجودها في موقعها، ويحمل تأشيرة دخولها إلى حياة المجد والخلود، أو إحالتها على مزبلة التاريخ، ثم لأن الموقف القائد يكاد يكون حاسما في هدم أو بناء الكسب الحضاري، ودافعا لانطلاقته ولحراسة المنجزات التاريخية وامتدادها، ولأن صناعة النهاية الخالدة أيضا هي توقيع تاريخي تستمد منه الأجيال نبضها في المواجهة وتمد منه المستقبل بالحياة. عندما سقطت الأندلس، سجل التاريخ شكل نهاية القيادة العربية بها، وذلك بعد أن أشرف أبوعبد الله آخر ملوك بني الأحمر أثناء مسيره على مغادرة الأندلس، وقف على شعب تل البذول، وأخذ يسرح بصره لآخر مرة على منظر غرناطة، بكى واستبد به الحزن، فأجابته أمه: أتبكي كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال، وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحا لذلك المنظر المحزن باسم "زفرة العربي الأخيرة". وكانت هذه وقفة من بين وقفات تاريخية كثيرة تحمل من بين رسائلها إلى العقل العربي، أن العبرة بالخواتم، فهي التي تتيح فرصة معرفة هل كان القائد متكافئا في صفاته وقدراته وفي طبيعته الخاصة، لصفات وقدرات وطبيعة مجتمعه، بشكل يعطي المثال في كل موقف من المواقف التغييرية من خلال نفسه. وما ذلك إلا من أجل أخذ العبرة للمستقبل. فقدر أبو عبد الله في أن يزرع الدمع، ليخرج منه العزم، فتكون بحق زفرة ثورة، لا على الأعداء فقط بل على كل المعايب وعلى الضعف خاصة. فلا يحمي البلاد إلا رجال يحملون أمة. لا يدعون في أنفسهم قوة إلا ضاعفوها. فإذا سقط السيف من أيديهم فلأن الحق سقط من عقولهم. ولذلك فحدث الانهيار المفاجئ للقيادة العراقية، لا يقصي الحق التاريخي لجميع العرب، في معرفة كيف كانت زفرة صدام الأخيرة؟! هل صنع نهايته الخالدة، أم تحول عن المسار في آخر لحظة؟ وبأي شكل لفظت القيادة أنفاس صمودها الأخيرة؟... السؤال مشروع والجهد في الإجابة عنه له طريق واحد: "لحظة حقيقية"، رغم أن الحقيقة العربية في السياسة الأمريكية "ثمينة للغاية إلى حد أنه يجب حمايتها بموكب من الأكاذيب". وحتى لا يعرف العالم من المسؤول عن الخطإ التاريخي في قتل فكرة الإنسان العربي، فإن "الحقيقة"محاصرة بجمر الإثم العدواني، والتي نجت من جمر العدوان وضعت تحت نظام مراقبة صارم، لتلقن العالم حقيقة واحدة: وهي استحالة الهروب من برنامج "مبرمج" على مدار التاريخ يفرض نفسه بقوة الاقتحام على أعصابنا، بأن التاريخ السياسي تحول إلى مقامرة، يبشرنا فيها العقل الأمريكي بأن من "لم يلعب" فسوف "يخسر". ومع ذلك فمهما تعددت قراءات انهيار القيادة العراقية ودلالاتها، فإن شكل نهايتها يبيح لنا القول بأن كل الأسئلة المستفزة التي خلفتها صدمة المعلومات المتسارعة، قد تجد جوابها جاهزا في أن محنة الأمة العربية في زفرات الفكر القائد المتخاذلة، المنسحبة من دائرة تفكير شعوبها. ومن السهل جدا إحالة هذا الاتهام من الأنظمة إلى الشعوب، عملا بالحكمة القائلة (كما تكونوا يولى عليكم)، ولكن هذا يقود إلى السؤال (من جعل الجمهور كما هو كائن)، إذا كانت بعض الأنظمة تفتقر إلى العقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة، بحيث يمكن القول بأن الشعوب سبقتها في هذا المجال بشوط بعيد. صحيح أن الهزيمة العسكرية تخضع لسلطة الله في النصر أو الهزيمة، ولكن الهزيمة الفكرية والروحية هي قرار يمكن أن يتخذه الشعب بخياره أو إرادته، لذلك فزفرة الإحساس بالكرامة قوة تدميرية تقض المضاجع، ولكنها تعيد الشرف للعقلية المهانة. وزفرة الفزع على راحة الضمير، والضمير سياسيا لا تقاس إلا في حركة التعبير عن ذاته، بالمعارضة الجدية أو الاعتراض المؤثر والقادر على المساهمة في التغيير، وزفرة الرفض والمقاطعة لكل بضائع الصهاينة والمستكبرين... فعبثا خروجنا من دوامة العراق، وهي تتغذى من منابعنا، فنحن عراقيون هنا وهناك، وفي كل مكان لا لشيء إلا لأننا قطعة في آليات إعادة تبديل موازين القوى الدولية، ولأن منظومة الخطوة خطوة هي التي اقتضت أن تكون البداية من هناك، ولا ندري بما يعدنا يوم آخر؟ فهل ستكون هذه زفرة انكسار وذل العربي الأخيرة، والثورة على ماضي الانحطاط وزفراته المهينة؟! فصناعة التاريخ التزام مبدأ وعقيدة، يستدعي المساهمة في زرع الزفرات الإيجابية في وجدان الأجيال بما يضمن امتداد الحياة في الأمة. عزيزة الزعلي