يقول تعالى في كتابه العزيز: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء "، فالله عز وجل أنزل تلك المخلوقات منزلة البشر وهو بذلك يحثنا على معاملتها بما يليق من احترام وصون كرامتها. لكن فضيحة سجن أبو غريب كشفت صورة شاذة ومروعة في التعذيب وانتهاك حرمات البشر، خلافا لما تقره النواميس المتعارف عليها. وقد ذكرت مجلة نيويوركر – نقلا عن تقرير للجيش الأمريكي- أن السجناء العراقيين تعرضوا لمجموعة من الانتهاكات الجسدية السادية والسافرة والخليعة على أيدي الجنود، من بينها اللواط والضرب. كما روى مؤخرا بعض المعتقلين محنته في سجن أبوغريب، حيث ذكر أنه كان مستقلا سيارة أجرة فتم توقيفها من طرف الجنود، ولم يكن سائقها يتوفر على أوراق الملكية، فاقتيد الاثنان إلى السجن دون التحري في صحة التهمة الموجهة إلى الراكب، ثم إلى سجن آخر، وهناك تعرض لأسوأ أنواع التعذيب والمهانة، حيث اضطره الجنود لممارسة أفعال مشينة. وبعد كل هذا أطل علينا دونالد رامسفيلد من داخل الكونغرس في إطار مسرحية سخيفة، لا ليعتذر بل ليعطينا دروسا في "الديمقراطية وحقوق الإنسان"، حيث شرع يقول ( مخاطبا العالم العربي طبعا ) : "أنظروا كيف تتصدى أمريكا لسوء المعاملة" " لاحظوا الفرق بين أولئك الذين يؤمنون بالديمقراطية وحقوق الإنسان وأولئك الذين يؤمنون بالديكتاتورية". والحال أن انكشاف هذه الجريمة الشنعاء لم يكن من طرف الإدارة الأمريكية كما ادعى رامسفيلد، بل بفضل الإعلام والصور التي تداولتها الصحف ومواقع الإنترنت، وليس مستبعدا أن يكون الأمر من تنظيم فريق حملة جون كيري (منافس بوش الديمقراطي) لغايات انتخابية. وتجدر الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية التزمت الصمت إزاء التقارير التي رفعتها إليها الهيئات الدولية كالهيئة الدولية للصليب الأحمر، حيث صرح الناطق الرسمي باسم الهيئة لصحيفة لبراسيون " لقد أخبرنا السلطات الأميركية المدنية منها والعسكرية مرارا وتكرارا، سواء بالعراق أو بالولايات المتحدة، بالوضعية التي عايناها بسجن أبوغريب وطالبنا باتخاذ الإجراءات المناسبة". ولا غرابة في سكوت الإدارة الأمريكية عن انتهاكات أبوغريب و غوانتانامو و باغرام وغيرها من معتقلات التعذيب. فأمريكا تريدنا أن نخشاها لا أن نحبها، و كيف لرامسفيلد أن لا يبارك تلك الانتهاكات وهو الذي تبنى عبارة الكابون المجرم الذي قال: " كلمة طيبة ورشاش تمنحانك أكثر ما قد تمنحك كلمة طيبة لوحدها". وثمة واقعة أخرى: ففي الوقت الذي استنكرت فيه أمريكا المجزرة التي ارتكبها صدام حسين ضد الأكراد في حلبجة، فإنها أخفت معلومة هامة، وهي أنها دعمت تلك الجريمة، لكن الدعم انقلب حربا حين ارتكب صديق الأمس أول جريمة في نظر أمريكا والمتمثلة في عصيانه لأوامرها ( أو سوء فهمه لأوامرها) حين احتل الكويت. أمريكا لم تكن في يوم من الأيام نموذجا للديمقراطية التي ما فتئت تروج لها وتسعى لتصديرها إلى الشرق الأوسط. فعلى خلاف ما عودتنا عليه سينما هوليوود في أفلامها التي ترسم صورة مثالية عن الديمقراطية حيث تلقي الشرطة القبض على المتهم وتقرأ عليه العبارة الشهيرة: " من حقك التزام الصمت. كل ما يصدر عنك من أقوال قد يثار ضدك". بيد أن انتهاكات حقوق الإنسان رأت تاريخها وترعرعت في أمريكا والأمثلة على ذلك جمة ويطول الحديث عنها. لن نعود إلى الوراء وإلى الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر، لكن نشير إلى أن الجرائم المشينة التي ارتكبت في أبوغريب تدخل في إطار عمليات تعذيب منظمة وممنهجة ومصادق عليها من جهات عليا في واشنطن. وفي 9 مارس المنصرم، نشرت هيومن رايتس واتش-وهي منظمة أمريكية- تقريرا أدانت فيه بشدة التجاوزات التي تقوم بها القوات الأمريكية في أفغانستان. وفي استجوابها لمجموعة من المدنيين الذين كانوا محتجزين بالمعتقلات الأميركية، صرح أحدهم: "إن أبشع ما في الأمر هو أنهم كانوا يلتقطون لنا صورا فوتوغرافية ونحن عراة كليا. لقد تعرضنا لأبشع أنواع المهانة والإذلال". وفي حملة المداهمات التي تشنها القوات الأمريكية في أفغانستان، تستعمل القوة بشكل مفرط، حيث ذكر مسؤول أممي في تقرير له سنة 2002 : " إن القوات الأمريكية تتعامل بفظاظة رعاة البقر مع المدنيين الذين ليسوا في الحقيقة سوى مواطنين عاديين يحترمون القانون" ويضيف التقرير: "وبدل طرق الأبواب، يتم تفجيرها بالقنابل اليدوية". كما أشار تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى أن أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم إلى جانب الصين التي تطبق عقوبة الإعدام في حق الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم عندما كانوا قاصرين. وقد أعدمت في السنة الفارطة سجينين رغم ثبوت عدم تمتعهم بكامل قواهم العقلية. ما يضحك في فضيحة أبوغريب ( وإن لم يكن فيها ما يضحك) ويستحق التوقف عنده هو رد أحد الجنود المتورطين في تلك السلوكات السادية السافرة حين قال: "لم نتلق تكوينا عن طريقة معاملة السجناء". وكأن معاملة السجين بشكل أخلاقي تحتاج إلى دروس وتوعية، أو ليست المعاملة الإنسانية سلوكا فطريا يولد مع الإنسان ويدرس في البيت قبل المدرسة؟ أم أنها بحق حرب صليبية ضد المسلمين والعرب كما قال بوش؟ والمؤسف أنه بعد انكشاف فضيحة أبوغريب، انبرى البعض لإجراء مقارنة بين ما حدث في أبوغريب وما يحدث في السجون العربية أو بما حدث في عهد صدام. وهذا سلوك خاطئ، لأن مقارنة جريمة بأخرى للتخفيف من قيمة الأولى، معناه الدفاع عن مرتكبي الجريمة وغض الطرف عن تلك الانتهاكات. فالجريمة لا يبررها وقوع جرائم أخرها مثلها أبشع وأفظع. ومن ناحية أخرى، فالصور الفاضحة هي إهانة للأمة العربية جمعاء، التي يفضل رجالها الموت على التحرش بهم جنسيا. وأعتقد أنه لم يعد من حق أمريكا أن تتساءل لماذا يكرهها العرب. وفي هذا الصدد، ذكرت صحيفة الوطن الكويتية أن تلك الصور ربما تكون بمثابة هدية ستقدم على طبق من فضة لبعض الإسلاميين المتطرفين الذين يسعون جاهدين إلى تلطيخ سمعة أمريكا. ومن يدري؟ فربما بعد تسرب تلك الصور، تم عرضها في مكان ما قرب أحد مساجد السعودية أو اليمن أو العراق، على أحد أنصار بن لادن، فعزم على تجنيد نفسه للجهاد ضد أمريكا. إن هذه الفضيحة التي أحرجت أميركا والأميركيين، إنما هي خسارة أخرى تنضاف إلى الخسائر التي ما فتئت أمريكا تتكبدها في العراق، والخسارة هذه المرة ضخمة، فأميركا خسرت صورتها كمرجعية أخلاقية وكمصدر للإلهام في العالم. وفي هذا الشأن، صرح توماس فريدمان، صاحب افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية:" لم أعرف في حياتي كلها لحظة كانت فيها أميركا ورئيسها هدفا لهذه الكراهية كما هو حالها اليوم". وطالما نصح دهاة الحرب أميركا بالانسحاب، لكنها مصرة على العناد والمكابرة، وكلما تأخرت في الانسحاب، كلما كان الثمن غاليا. وبعد هذا يحق لنا أن نتساءل: ألا يبدو أن العراق سيلد صداما جديدا تدعمه أمريكا ثم ينقلب عليها وعلى شعبه، خاصة وأن الأطياف المتزعمة للعراق الجديد لم تندد بما حصل؟ وهل لا زالت أمريكا مصممة على تصدير ديمقراطية أبوغريب إلى العالم العربي؟ رشيد المتوكي