الحلقة الثالثة وفي معنى (الكتاب) قيل: القرآن وقيل: الخط بالقلم يعني الكتابة «لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط».. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أسر سبعين من صناديد قريش في غزوة بدر تعهد لمن يعرفون الكتابة منهم أن ترد إليهم حريتهم ويفك أسرهم إذا علم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة الكتابة... وهكذا كان تعليم الكتابة يعدل الحرية.. وفي معنى (الحكمة) قيل: السنة وهو ما ذهب إليه كثير من المفسرين. قال الإمام محمد عبده في ما نقله عنه الشيخ رشيد رضا في تفصيل معنى (الحكمة): «دعا القرآن إلى التوحيد وأمهات الفضائل، وبين أصول الأحكام، ولكنه لم يفصل سيرة الملوك والرؤساء مع السوقة والمرؤوسين، ولم يفصل سيرة الرجل مع أهل بيته في الجزئيات وهو ما يسمونه نظام البيوت العائلات ولم يفصل طرق الأحكام القضائية والمدنية والحربية، وذلك أن هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ بالأسوة والعمل بعد معرفة القواعد العامة التي جاءت في الكتاب. ولذلك كانت السنة هي المبينة لذلك بالتفصيل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته ومع أصحابه في السلم والحرب والسفر والإقامة، وفي حال الضعف والقوة والقلة والكثرة، فالسنة العملية المتواترة هي المبينة للقرآن بتفصيل مجمله وبيان مبهمه، وإظهار ما في أحكامه من الأسرار والمنافع، ولهذا أطلق عليها لفظ الحكمة فإنها كالحكمة (بالتحريك) لتأديب الفرس، ولولا هذه التربية بالعمل لما كان الإرشاد القولي كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء والجهل والأمية إلى الائتلاف والاتحاد والتآخي والعلم وسياسة الأمم. فالسنة هي التي علمتهم كيف يهتدون بالقرآن، ومرنتهم على العدل والاعتدال في جميع الأحوال. كلنا يعرف الحلال والحرام والفضيلة والرذيلة، وقلما ترى أحدا عاملا بعلمه، وإنما السبب في ذلك أن الأكثرين يعرفون الحكم دون حكمته، ودون الأسوة الحسنة في العمل به، فهم لا يفقهون لم كان هذا حراما، ولا تنفذ أفهامهم في أعماق الحكم فتصل إلى فقهه وسره، فتعلم علما تفصيليا ما وراء المحرم من الضرر لمرتكبه وللناس، وما وراء الواجبات والمندوبات من المنافع العامة والخاصة، ولو علموا ذلك وفقهوه بالتربية عليه وملاحظة آثاره والاقتداء بالمعلمين والمربين في العمل به كما أخذ الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخرجوا من ظلمة الإجمال والإبهام في المعرفة إلى نور التجلي والتفصيل، حتى تكون الجزئيات مشرقة واضحة، ولكان هذا العلم معينا لهم على إحلال الحلال بالعمل، وتحريم الحرام بالترك. فقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم على فقه الدين ونفذ بهم إلى سره، فكانوا حكماء علماء، عدولا نجباء، حتى إن كان أحدهم ليحكم المملكة العظيمة فيقيم فيها العدل ويحسن السياسة وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، ولكنه فقهه، وهذا المعنى فقه الدين ومعرفة أسرار الأحكام غير التزكية، بيد أنه يتصل بها ويعين عليها، حتى يطابق العلم العمل...» ولعل ما خلص إليه محمد عبده اقتبسه من قول الإمام «مالك بن أنس»: «الحكمة» الفقه في الدين.. هذا يعني أن العمل الصحيح المتقبل عند الله إنما يتم بحسن الفقه ودقة النظر مع الإخلاص والنية الحسنة. هذه العناصر الثلاثة: (التلاوة والتزكية والتعليم) هي أسس الرقي الاجتماعي والثقافي والأخلاقي... «فمن كان محروما من الآيات المتلوة لا يدري عنها شيئا، ومن كان محروما من الزكاة النفسية، ومن كان محروما من العلم والحكمة فلا صلة له بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن ادعى النسبة إليه!!». (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) أي من قبل أن يرسل إليهم. وقد وصف جعفر بن أبي طالب للنجاشي حال العرب ومدى الضلال الذي كانوا فيه قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقال كما في سيرة ابن هشام : «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام». (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال ابن زيد: هؤلاء كل من كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، كل من دخل في الإسلام من العرب والعجم. اختاره ابن جرير. وقال الفخر الرازي: «... فالمراد بالأميين العرب، وبالآخرين سواهم من الأمم... وجعلهم منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، فالمسلمون كلهم أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم، قال تعالى: (والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض). قال بعض المحققين في ما نقله القاسمي في تفسيره : «في الآية معجزة من معجزات النبوة، وذلك في الإخبار عن غيب وقع، والبشارة بدخول أمم غير العرب في الإسلام قد حصل. فقد صارت تلك الأمم التي أسلمت من العرب، لأن بلادهم صارت بلاد العرب، ولغتهم لغة العرب، وكذلك دينهم وعاداتهم، حتى أصبحوا من العرب جنسا ودينا ولغة، وحتى صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس، لأنهم أمة واحدة (وأن هذه أمتكم أمة واحدة) فصدق الله العظيم». وقيل: (لما يلحقوا بهم) في السبق إلى الإسلام والفضل والشرف، وهو نفي مستمر، لأن التابعين ومن بعدهم من العرب والعجم لا يدركون مع الصحابة شيئا، ولا يساوونهم في شأنهم (وهو العزيز الحكيم) أي: ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره (ذلك فضل الله يوتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم) إن بعثته صلى الله عليه وسلم فضل عظيم، وما خص به العرب منة كبرى.. وفيه إشارة إلى ما يجب على المسلمين من الشكر الجزيل والاعتصام بالكتاب والسنة وتحمل جميع الآلام والمشاق في سبيل الدفاع عن هذا الدين وإعلاء رايته. محمد علي السجاعي (يتبع)