بقدر ما تضاعفت مشاكل الأسرة وتشعبت تخصصاتها بفعل تعقد جوانب الحياة الحديثة، أصبحت مؤسسة الزواج والأسرة مهددتين بالتصدع. وما ارتفاع نسب الطلاق إلا نتيجة ميكانيكية لهذه المشاكل. لذا أصبح اللجوء إلى الاستشارات الأسرية ملاذ الخائفين على استقرارهم العاطفي والأسري، سواء تعلق الأمر بالعلاقات بين الزوجين أو بين الأبناء والآباء. لكن مجال الاستشارة كغيره من عديد من المجالات أصبحت تشوبه شوائب الفوضى، إن على مستوى كفاءة المقدمين للاستشارات أو على مستوى استغلال بعض ذوي المصالح الشخصية للموقف من أجل ملء جيوبهم أموالا متاجرين بأحوال الناس وآهاتهم. ومما لا شك فيه أن بروز ما يسمى بمراكز الاستماع والإرشاد الأسري، يعد ترجمة عملية لفكرة الإصلاح والإرشاد بين الناس في المجال الأسري، ودعما للدور الكبير الذي تلعبه في درء التصدعات التي تتعرض لها الأسرة وتقوية فضائها وتنمية قدراتها وتأهيلها للقيام بوظيفتها التربوية. فما السبيل حتى تؤدي الاستشارة الأسرية دورها البنائي وتجاوز مواطن الخلل الناتج عن قصد أو غير قصد؟ في ما يلي التفاصيل: حاجة ملحة ترى إيمان لعوينة رئيسة جمعية "المستقبل للأسرة والشباب" في تصريح ل "يومية التجديد"، أنه: "مع تعقد إشكالات الحياة المعاصرة، وتزايد التحديات التي تواجهها الأسرة المغربية اليوم، أصبحت تطفو على السطح كثيرا من الصعوبات في قيادة حياة أسرية هنيئة ومستقرة، مما دفع بالأزواج من جهة أو الآباء وأولياء الأمور من جهة أخرى إلى اللجوء إلى أخصائيين في الاستشارة الأسرية، سعيا منهم لإيجاد حل لمعيقات تربوية بحيث يجدون صعوبة في مزاولة هذه المهمة الشاقة ويرغبون في ممارستها بدراية وعلم، أو تعترضهم بعض المشاكل في علاقاتهم مع أبنائهم خصوصا في فترة المراهقة.. فلايجدون من بد سوى طلب تدخل طرف آخر، من ذوي الاختصاص فيلجؤون إلى الاستشاري الأسري وكذلك الأزواج، إما سعيا لبناء التوافق وإنجاح تجربة الزواج خصوصا في السنة الأولى، أو لحل مشاكل مستعصية تهدد الاستقرار الأسري وتعصف بالعلاقة الزواجية". وأرجعت لعوينة سبب ما يمكن تسميته فوضى في مجال الاستشارة الأسرية إلى "كون الساحة أصبحت ممتلئة بالأخصائين في الاستشارة الأسرية، إضافة إلى وفرة المراكز المتخصصة التي تقدم دورات تدريبية وتمنح شواهد معتمدة، تدخل المعني بالأمر بيسر إلى عالم الاستشارة الأسرية، ومن طبيعة الحال فإن الجمعيات المهتمة بقضايا الأسرة تستعين بخبرة هؤلاء الأشخاص نظرا لما يعرض عليها من الحالات..". وأضافت لعوينة ل "يومية التجديد": "فبين الاحتياج وضرورة التقنين، نعترف بأهمية الاستعانة بهؤلاء الخبراء، ولكن بعد تبين الكفاءة والخبرة، حتى لا يتحول الاستشاري الأسري إلى معول من معاول الهدم بدل البناء للأسرة". وعن سؤال حول كيفية تطمين الأسر التي تقصد مراكز الإرشاد الأسري في ظل الفوضى التي تعرفها الاستشارات خصوصا من لدن المتاجرين بها، أو من الذين لا يتوفرون على الكفاءة وتكون نيتهم حسنة في إصلاح شؤون الأسرة؛ أجابت لعوينة: "الأسر أصلا التي تلجأ إلى هذه النوعية من الخدمة يتوفر لديها منسوب كبير من الوعي والدراية وبالتالي الأسر الواعية لا خوف عليها فهي لديها المؤهلات لتحري الوجهة الصائبة، أما الأسر التي تلجأ إلى مراكز الترشيد الأسري وهي في حالة نزاع فهذه الأخيرة تبحث عن الحل من خلال إثارة مسطرة التقاضي لحل الخلاف وهذه مهام أخرى يقدمها ذوو الاختصاص في مهن العدالة". تعدد الواجهات أصبحت خدمة الاستشارات الأسرية متوفرة وأصحاب الخدمة موزعون بين قنوات فضائية وإذاعات خاصة ومجلات ومواقع إلكترونية، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي جعلت من فتح دكان للاستشارة أسهل من الحصول على شهادة الإقامة من السلطات المختصة، وكثرت الإعلانات التي تهتم بالتكوين في مجال الإرشاد الأسري حتى أصبح صاحب الاستشارة تائها أين هي الوجهة الصحيحة التي يجد فيها الدواء الشافي لدائه الأسري، وكيف تكون وجهته محل ثقة ومستودع أسراره وفي نفس الوقت تمثل خلاصه مما يتربص به من مشاكل أسرية أصحت تعيق مسيرته العملية والحياتية بصفة عامة. مصطفى أمجكال فاعل جمعوي صرح ل "يومية التجديد"، أن مجال الاستشارة الأسرية بالرغم من أنه من الموضوعات الشائكة لارتباطها بأمور داخلية بين أطراف يحرص كل واحد منهم على الظهور بمظهر الصادق والمحق والبريئ، إلا أن المجال أصبح يعرف شيئا من الفوضى خصوصا في عدد من الإذاعات. ولم ينس أمجكال أن يضيف أن بعض المستشارين يفتقدون للتجربة والواقعية، فقط بمجرد حصولهم على تدريبات يقدمون على تقديم الاستشارات للناس حتى أن منهم غير المتزوجين، مشيرا إلى أن الجري وراء المال والشهرة دفع البعض منهم دون تعميم بطبيعة الحال لأن من المستشارين من طوروا أدائهم بعد أن كان غرضهم في البداية إصلاح أحوال أسر وإنقاذها من الضياع، لكنهم آمنوا بالتكوين وخضعوا له بكل تواضع دون أن ينتظروا من تقديم الاستشارات إدرار أموال أو شهرة. وأشار أمجكال إلى أن بعض المنابر الإعلامية تتجه نحو الشخص الذي لديه ممول مثلا، يمول له برنامجا إذاعيا للاستشارات الأسرية مقابل الإشهار لماركة معينة. مظاهر الفوضى وعلاجها لطفي الحضري أخصائي نفسي مختص في علم النفس التواصلي ومدرب في التنمية البشرية تناول مع "يومية التجديد" موضوع ملحاحية الاستشارات الأسرية مع نقده لمن يستغلون حاجة الناس ليتاجروا بأحوالهم بحسن نية أو بسوء نية، وحذر المقبلين على الاستشارات الأسرية من المتلاعبين، كما دعا وسائل الإعلام إلى تحري الدقة والحكومة إلى تقنين المجال حتى يعرف كل واحد حدوده. وأكد لطفي الحضري في حديث ل "يومية التجديد"، على أن الأسرة المغربية وخصوصا بالحواضر اعترتها الكثير من التغيرات، وتتعرض لكثير من التأثيرات والضغوط، مما جعل العديد من الأسر تنحسر الشيء الذي أثر على العلاقات العاطفية، وأصبح الهاجس بالنسبة للكثيرين ينحصر في التحصيل الدراسي للأبناء والمادي. وأضاف الحضري أن الضغوط التي يتعرض لها كل الرجل والمرأة بحكم العمل داخل وخارج المنزل، إضافة إلى إشكالية الفردانية، كل ذلك أصبح يؤدي إلى التفكك الأسري وإلى كثرة الشجار حتى أصبحت الأسرة يجمعها المسكن أكثر مما تجمعها علاقات عاطفية وإنسانية، هذا بالإضافة إلى رغبة الأبناء في الاستقلالية وتعدد المرجعيات التي تنهل منها الأسر، والإهمال الأسري، كل هذه المعطيات أجملها الأخصائي النفساني الحضري في كونها شيئا دافعا لضرورة اللجوء إلى الاستشارة الأسرية من أجل إنقاذ الأسر من التفكك والشجار. ولكن أين سيتجه أفراد الأسرة من أجل تقديم استشاراتهم الأسرية؟ ألم يصبح باب تقديم أجوبة الاستشارات مفتوحا على مصراعيه ويعج بفوضى بفعل ضعف كفاءة بعض المستشارين من جهة، وبفعل متاجرة البعض الآخر بهذا الجانب الحساس من حياة الأفراد، كما تعم الفوضى قطاعات أخرى؟ عن هذه الأسئلة أجاب الدكتور لطفي الحضري بأن هناك متخصصين أكاديميين يجب اللجوء إليهم، وهذا لا ينفي أن هناك أناس لديهم نيات حسنة لإصلاح أحوال الأسر لكنهم يوفقون أحيان ويخفقون في أحيان أخرى، وهؤلاء عليهم الخضوع للتدريب والتطوير حتى يتسم عطاؤهم بالجودة، مؤكدا أن عدة جمعيات ومراكز تعتمد تكوين أطرها في المجال لرفع كفاءتهم، وفي الوقت ذاته أكد: "لا ننكر أن هناك أناسا لا يهمهم من التكوين سوى إغناء بطاقاتهم الشخصية من أجل المتاجرة بأحوال الناس" مضيفا أن "الخطورة تكمن في قصد الأسر إلى غير المتمكنين والمؤهلين مما سينعكس سلبا على هذه الأسر". وانتقد الحضري بعض الجهات التي تعمد إلى تخريج مكونين خلال مدة 3 أيام وهذا عليه مؤاخذات، فالتكوين جيد ولكن يجب معرفة الحدود، ولابد من التواضع العلمي، فبعض هؤلاء "المكونين" لا يستحيون وهم يوزعون بطاقات زيارة مكتوب عليها "خبير دولي" رغم أن تكوينهم لم يتعد ثلاثة أيام. وعن الاستشارات الأسرية التي تأتي عبر وسائل الإعلام المختلفة حذر لطفي الحضري من اقتناء جواب يخص حالة فرد آخر، ودعا وسائل الإعلام التي تقدم خدمة الاستشارات الأاسرية إلى تحري الدقة في الكفاءة العلمية لمن تستقدمهم لخدمتها، مشيرا إلى أن الجانب المضيء في تقديم الاستشارات على القنوات العالمية هو أن بعض الأسر قد تعتبر مشاكلها هي الأخطر وليست لها حلول بينما حينما تتفرج أو تقرأ عن مشاكل باقي الناس تستهين بمشاكلها وقد تستفيد من تجارب الغير دون تنزيل الوصفات كاملة لأن الحالات تختلف. وعن كيفية معالجة فوضى الاستشارات الأسرية يرى الحضري أن على الحكومة المسارعة إلى تقنين المجال، حيث يكون مقدم الاستشارة ذا شهادة عليا في إحدى العلوم الإنسانية وذا شهادة المصاحبة التي تتيح له مقاربة مشاكل الناس، أو أستاذ جامعي متخصص سواء في علم النفس أو الاجتماع. وأضاف المتحدث نفسه أن على المجتمع أيضا ممثلا في الأسر أن يطلب البطاقة الشخصية للمستشار حتى يتم التأكد من كفاءته العلمية، مشيرا إلى أن بطاقة الزيارة غير كافية لأنها غير مؤطرة قانونيا ومعرضة للعبث فكثير من المتطفلين يوزعون بطاقات زيارة تتضمن معلومات خاطئة من قبيل: (خبير دولي..) كما أن بعض القنوات والإذاعات والمواقع الإلكترونية تقوم بتغليط الناس عبر مناداة بعض المستشارين بصفات علمية غير صحيحة. لذا وجب تحري الدقة. كتاب للإرشاد أولى منتدى الزهراء للمرأة المغربية موضوع الإرشاد الأسري أهمية كبرى من خلال حرصه على تقوية قدرات شبكته النسائية المكونة من 106 جمعية موزعة على صعيد التراب الوطني في جانب خدمة الاستشارات الأسرية، بل وجعل المنتدى أول إصداراته كتابا بعنوان: "الإرشاد الأسري – أضواء على التجربة" ضمن سلسلة الزهراء. ويعرف الكتاب الإرشاد الأسري بأنه فرع من فروع الإرشاد النفسي، ومجال متخصص بشؤون الأسرة بما فيها منظومة العلاقات الزوجية والعلاقات الوالدية.وتعتمد نقط ارتكاز العمل في مجال الإرشاد الأسري على ثلاثة مناهج: المنهج العلاجي: ويتضمن علاج المشكلات والاضطرابات حتى العودة إلى حالة التوافق من خلال آلية الصلح. المنهج الوقائي: ويهتم بالأسوياء والأشخاص العاديين قبل اهتماماته بالأشخاص الذين يعانون من مشاكل وخلافات لوقايتهم من حدوثها. المنهج الإنمائي: وترجع أهميته في تقديمه خدمات الإرشاد والتوجيه إلى الأشخاص العاديين لتحقيق زيادة كفاءة الفرد الكفء، وتدعيم الفرد المتوافق إلى أقصى حد ممكن.. الأمر الذي يساعد على تكوين أسرة صالحة، كنواة لمجتمع ناجح. وتضمن الكتاب مجموعة من تجارب الإرشاد بالدول العربية، استنادًا لخبرات وفد من أعضاء "منتدى الزهراء" الناجمة عن زياراتهم الميدانية لتلك الدول. ففي دولة قطر تميز الإرشاد الأسري بتجربة تأسيس المجلس الأعلى للأسرة سنة 1998 والذي قام بدوره بتأسيس عدة مراكز فرعية تابعة له منها مركز الاستشارات العائلية. ومن خلال زيارة قام بها وفد "منتدى الزهراء" لمركز الاستشارات العائلية بدعوة من المجلس الأعلى للأسرة بقطر من 22 إلى 28 إبريل 2005، وقف الوفد الذي كنت فيه إلى جانب كل من المهندسة سمية بنخلدون والدكتورة جميلة المصلي، على تجربة المركز الذي يقدم استشارات من أنواع مختلفة، سواء كانت شرعية أو اجتماعية أو قانونية أو تربوية ونفسية. وأشار الكتاب إلى مساهمة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية في الإرشاد الأسري من خلال عمل خلايا المرأة والأسرة بالمجالس العلمية، خصوصا بعد تعيين ملك البلاد ل36 من النساء في المجالس العلمية بمختلف الأقاليم المغربية بتاريخ 30 إبريل 2004، وقد ساهم عمل هذه الخلايا في توعية أفراد الأسرة. ولم يغفل الكتاب مساهمة الوزارة المكلفة بالأسرة والطفولة والأشخاص المعاقين التي سطرت برامج لدعم مراكز الاستماع للنساء ضحايا العنف، وتخصيص رقم أخضر (خط ساخن) يندرج ضمن إستراتيجية وطنية لمحاربة العنف ضد النساء. توصيات من بين التوصيات التي صدرت عن المؤتمر الدولي حول «الوساطة الأسرية ودورها في الاستقرار الأسري»، الذي احتضنه المغرب يومي 7 و 8 دجنبر 2015 اعتماد برامج للتدريب وتطوير الكفاءات المهنية للمقبلين على الزواج، وإحداث نظام للإرشاد الأسري كآلية تقي الأسر من التفكك. وشملت توصيات هذا المؤتمر، الذي حضر اختتامه، بالخصوص، وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية بسيمة الحقاوي، إحداث نظام للإرشاد الأسري كآلية تقي الأسر من التفكك، وضمان استقلال الوساطة الأسرية عن الجهاز القضائي ومواصلة التنسيق معه، وتعميم الوساطة لتشمل مختلف النزاعات الأسرية.