حدث الموت الفاجع المفاجئ، قد يستغل كثيرا –من طرف الكثير من التيارات والتنظيمات والمجموعات- من أجل خلق هذا الطابع الأسطوري على الراحلين من الزعامات السياسية، والقامات السامقة لتخليدها في التاريخ، وتحنيط ذكرها في العالمين، أليست لحظة الشهادة رفعة للذات والانتماء والإطار والرسالة والتنظيم. ألم يستخدمه أناس كثيرون وتستعمله تيارات عديدة لإضفاءِ هالات قدسية على الراحلين، وتزيد من تشديد قبضتها على الأحياء من خلالهم حتى في غيابهم، وتمديد فكرهم وتأبيده، وتلقيحه بماء الحياة من آفات الزوال والإمحاء. لكن سي بها رحمة الله عليه فريد ومميز في حياته وأثناء رحيله، هو لم يخلف متروكا، ولم يترك وراءه إرث معرفة مكتوبة مدونة، ولا رصيد ثروة نقدية مخلدة، ولا جاه سلطان ولا سطوة زعامة، بل ترك النقيض من كل ذلك، ترك تواضعه وزهده وقيم نكران الذات والولاء للمشروع، ترك الشخصية الرسالية الطافحة، والروح الأنيقة الشفيفة، والألق الأخلاقي الرحيم، والقدرة على الحضور لحظة الغياب، ترك قيم البقاء والعطاء والوفاء والولاء. مرت سنة كاملة الأركان على الغياب المفجع لسي بها، ماذا ترك، وما العبرة من الذكرى، هل من عادة الكبار الرحيل بصمت هكذا ليحدثوا فينا كل هذه الضجة ويفجروا فينا حرارة الفقد؟ لنبحث بجهد عنهم فينا، ننتقي الكلمات لنكتبهم، نغطي مساحة غيابهم بالحروف، ثم نوقن في النهاية أننا لا نختار سوى الطريقة الصعبة للاحتفاء بالموت. هذا العام مر في تجربتنا الجماعية وعلاقاتنا الانسانية بلا طعم، وبالتحديد عند رفيق دربه ومحبه الأول والأوفى وشقيق روحه عبد الإله بنكيران، تتدحرج الذكرى بين زوايا العتمة، وخواطر البوح، وتباريح السفر … لا الدمع يكفكف الآم الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقد، ولا التوقف عند محطات الرفاق يجلب شيئا من السلوى لنا وللمحبين، لكنها أقدار الله السيارة . وإني كلما خطرت على نفسي خواطر الرحيل، أو مر ذكر راحل عزيز ترك الدنيا أحسن مما وجدها، وجدتني مع مصطفى صادق الرافعي أستعيد عبارته الخالدة : اعمل عملك يا صاحبي، فإن لم تزد شيئا في الدنيا كنت أنت زائدا عليها، وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فما وجدتها وما وجدتك. وأشهد الله أن سي عبد الله بها رحمة الله عليه، ترك الدنيا أحسن مما وجدها، فلم تكن حاجته وضعف حيلته في أول حياته وصروف الإنهاك التي مر بها أو مرت به، إلا دافعا جميلا لصنع الخير عندما أدركته الدنيا . وقد أخبرنا من عرفه حق المعرفة، وخبرنا نحن على قلة رفقتنا له، أنه يختزن في شخصه خصالا نقدرها أيما تقدير: مصداقية في المسير، ورفعة في العطاء، وكرامة النفس، ونبل المقصد، والقوة في الحق، والصلابة في المنهج، والوفاء للخلان، والسلاسة في الطبع ، والدماثة في الخلق، والمشاركة في العمل، والتفاني في الاخلاص، وزهادة في النوال، وأنفة في البذل، واقداما في المعركة، وتريثا في الحكم على الناس والخلق . لقد رحل عن الدنيا وهو زائد فيها، ولم يكن زيادة عليها، وقد تركها أحسن مما وجدها. إن للموت كرامات ورحمات أيها الباقون.. إن للموت جلال أيها الراحلون، ولنا من بعدكم انتظار في محطات قد تطول وقد تقصر، وقد ترهق وقد تصفو، وقد تُضحك وقد تبكي… حتى يقدم بلا هيبة أو تردد، يختارنا واحدا إثر آخر … ألم يقل الله العلي في القرآن الكريم : "لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". فمنذ رحيل سي بها في 7 ديسمبر 2014 الموافق 15 صفر 1436 ه، بوزنيقة، حيث تسبب قطار سريع في اقتراف ذلك الجرم وتغييب هذا الجبل الأشم عن دنيانا ومجامعنا إلى الأبد، والجميع يحتفي بموته، يبكيه حروفاً وبيانات نعي اجتهدت المؤسسات والهيآت في صياغتها لتبدو أكثر أناقة وأكثر ملاءمة للحدث العظيم الموت، وفقد حبيب ورمز . كل ما حولنا لحظتها كان يوحي بالذبول، حتى الكلمات في أرجاء بيت الكريم عبد الاله رفيقه الذي هو قطعة من روحه، كانت تتحشرج فنستعيدها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة الممدود، إنهم شعب من الناس يعزون في فقد سي بها ذلك المساء الكئيب . نستعيد ذكرى الرحيل، ونعيد تركيب المشاهد وفقدان الشهود، لكنك كنت وحدك شهيد أيها الحبيب،، ستمضي سنوات معدودات، قبل أن يتوقف هذا الاحتفاء البكائي، وقبل أن تختفي صورة الراحل الكبير والمبدع من واجهات الاحداث والوقائع الكبرى في البلد. للموت جلال أيها الراحلون إلى الخلود . كما له مرارة وألم وشعور بالغ بالفقد، نحن وحدنا من تمتد بهم الحياة نبكيك، ونذرف الدمع في وداعك، ونشيعك لمثواك الأخير، ونحن لا نكاد نصدق أننا لن نراك بعد رحيلك الأبدي إلى جنات الخلد بأذن الله. وقد لا يعني الكثيرين أي رمز ومعلم وحكيم نرثي، لأنه قد لا يعرفه الكثيرون لحظة حياته ولم يتمرسوا على القيم التي كانت تلهمه، ومن يعرفه حق المعرفة قلة من رفاقه ومحبيه. وأنا حتى اللحظة لم أكتب رثاءه لسنة مضت، لهول المصاب ولصوبة استساغة الحدث، وإنما بهذه الكلمات أرثي الأحياء قبل الأموات، والباقين عوضا عن الراحلين. لقد أثارت فاجعة رحيله ومفاجأتها غصة في الحلق، وانحسارا لمدد الرفقة الجميلة، وانطفاء لومضة نبل إنساني. وإذا اجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها… وفي هذا عزاء لنا وأي عزاء. لا أقول بأننا سننسى هذا المعلم العلم الحكيم والمليء في صمته، لقد جسد حضوره البهي في الغياب، أثناء حياته، لكننا اليوم نعاين حضور قيمه وأخلاقه وشيمه وشيوعها لحظة الغياب الكبير، لكنه حضور باذخ وطافح بالمعاني والعبر، فمثله أبدا لا ينسى ولا تطوى ذكراه العزيزة، لكننا نحاول في الكتابة مرثيات عن الراحلين أن نخفف من ذنوبنا تجاههم، حين كانوا أحياء، أن نكتب عنهم بعد موتهم وبعد غيابهم الكبير، لن يمثل لهم أي شيء، ولن يكون لنا سوى احتفاء بالموت احتفاء بالذكرى والعبرة والعظة والسيرة والمسيرة . سي عبد الله بها ليس من الهين نسيانه، لكنه لم يعد بحاجة إلينا، إخوانه ومحبوه المسؤولين عن الحديث عنه في حياته، ما يزال لديهم حاضراً كرمز ومعنى وقيمة، لن يلغيه الموت ولن يحدد علاقته بهم في قالب طائفي مكون من حروف ورسوم وإطار جامع وحسب. كان الراحل مهموما بالدعوة والرسالة أبدا، عانى لوحده في صمت معاني الكبرياء والاستعلاء على الصغائر والدنايا من القضايا، صارع من أجل المنهج والإصلاح والفلاح والكفاح، هو ورفيقه سي عبد الإله بنكيران في الدرب والحياة والمعاناة والألم، وكل إخوانه ورفقائه والمحبين، وظل الآخرون والأخير وحيدا فريدا، هو من القلائل من تذكر أنه عملاق في عالم نكران الذات والتجرد والوفاء يجب الاهتمام به وتخليد ذكراه، وإن فعلنا أو فعلت الجهات المختلفة والمتشاكسة ما فعلت لحظة تشييعه ووداعه حين التأم الجميع من كل ألوان الطيف الفكري والسياسي، دولة ومجتمعا، لم يكن ذلك مناسبة رمزية فحسب بل كانت لقاء حبيب بشعب وهو مسجى لحظة رحيله، لحجم العملاق الذي لم نره إلا بعد أن غادرنا. لم نتوقف حد كتابة مرثيات، لكننا طعمنا مرثياتنا بأن الرجل كان موسوعة رحيبة في الاخلاق والقيم والتواضع والفراسة والهدوء والسلاسة، ومتعدد المواهب في الاصغاء والانصات والانصاف فإلى جانب قدرته الفائقة على الحديث المركز الموجز بمختلف الأحوال والأجواء ، كان صائغ الكلمات التي صارت حكما بحق، وذلك بعض من تميزه. فهل أخبرنا عنه في كتبنا وصغنا قضاياه لوحات في مدارس المعاني، ذاك تحدي وتعاقد وأمانة عهد للقادمين، هل علم الناس أن ترنيمة غنائية ترتل ألحانها وصوتها الندي تجمع الصاحبين لحظة حياة ورفقة مسيرة، لحنها حزين وبديع، هل قرأنا عنه درسا في كتب سير الرجال إلا لحظة ارتقائه الى الله مرضيا، بإذن الله، كل ما نعرف عنه أنه حكيم حركة ودعوة، كان اسمه سي عبد الله بها، وصار اسمه الشهيد ، شهيد وطن ودعوة . موت سي بها ورحيله الأخير، نبهنا لتوه ولحظتها لمراجعة سيرة أمثاله في كتابات ومؤلفات، لكنها لن تغنينا عن الفعل والمثال الذي جسده بحق رحمة الله عليه، كان الرجل يحاول إعادة طبع قيم الوفاء والعطاء بلا أخذ والصدق والمصداقية والمشروعية والمؤسسية والصرامة في المنهج وغيرها، ولم يستطع بالنطق والبيان الجهير الموجز فقط، لكنه استطاع بالمثال والحال، إن الراحل الذي فقدناه حاول أن يجسد القيم التي صاغ بعضا منها ذات زمن وأودعها كتابة سبيل الفلاح، اختار أن يجسدها لحظة الرحيل ويتركها هي الرسالة الأخيرة والوصية الخالدة، فقد ترك نسخته الوحيدة من المخطوط من الكتب، أما إذا لم تعد تلك المعاني لساحة البيان، فلربما ظلت أحلامه عالقة في طباعتها سيرة سلوك وعنوان صدق وبرهان خلاص، حتى اللحظات الأخيرة من موته، وستظل أحلامنا عالقة أيضاً في الخالدين. جل الذي أخشاه أن نستمر في تكرار أخطائنا، ونذكر سي بها هذه الأيام وحسب، ثم بعد مرور عام آخر في مناسبة نسميها التأبين والذكرى، وربما نؤسس لذلك مؤسسة تحفظ التراث للباقين، وتلك مسؤولية والتزام لا زال عالقا ينتظر التحقق . نعلم أن دورة الحياة لن تتوقف وأنها مستمرة، حتى لو ترجل كل فرسان العطاء والفداء والوفاء في هذا الوطن، فلا بد أن يأتي آخرون، لكن اعترافنا بهم في حياتهم سيكون أكثر صدقاً، من محاولة التقرب إليهم بعد موتهم بكتابة الرثاء، هي دعوة للعبرة والذكرى. فهؤلاء باقون في قلوب الجميع، رغم حروفنا التي لا تذكرهم إلا بعد موتهم، ومثل هؤلاء حقاً لا يموتون، بل ينتقلون إلى دار البقاء . لماذا -إذن -يثير فينا الموت كل هذه الرهبة الكبرى، ولماذا يسجل هذا الكريم الشهيد هذا الحضور في الغياب، ولماذا نبكي الراحلين وقد امتدت بهم مراحل أخرى لمحطات أخرى انتظارا لحياة أخرى، ونحن سائرون إليها شئنا أم أبينا…. إننا في الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا، بل نبكي أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا. إن كل آلامنا ودموعنا وفرقنا وقلقنا لأننا لن نراهم بعد اليوم في دنيانا، وقد كانوا بعض سلوتنا أو جزءا من حياتنا أو بقية من رفاقنا ولقاءاتنا ومجامعنا… إننا نبكي مجددا من أجلنا نحن، لا من أجلهم، لأنهم رحلوا، فلن يشعروا ببكائنا، ولن يستعيدوا شيئا مما مضى، ولن يكون بمقدورهم أن يصنعوا شيئا لأنفسهم أو لنا. نحن إذن من يجزع لأن الراحلين انطفأت شموعهم في حياتنا، بعبق الشهادة والشهامة، ورحيق الاخلاص والوفاء والاصرار على البقاء في الدرب معتصمين بالمنهج، موصولين بالله العلي أبد الىبدين، ولأن رحيلهم إعلان كبير بأن قطار العمر ماض، والأيام حبلى والقدر محتوم… وللموت جلال أيها الباقون. وأخيراً ليس هذا المقال سوى رثاء على ذاكرتنا التي لا يملؤها بالدهشة والانتباه إلا فقدان الكبار من أمثال سي بها رحمة الله عليه وأدخله فسيح الجنات، رحمة الله على الباقين منهم، اللهم لا مبدلين ولا مغيرين، آمين..