شيعت مدينة شفشاون جنازة العلامة محمد السفياني أحد كبار علمائها وشيوخها الذين لازموا ثغرها ورابطوا في معهدها الديني والجامع الأعظم إلى قرب تقاعده. كانت الجنازة الحافلة والمهيبة تعكس الاحترام والتقدير اللذين يكنهما له أحبابه الكثر الذين توافدوا لتشييع جنازته من المدينة وخارجها مع أن خبر نعيه لم يصل الكثير من أحبابه وأصحابه ورفقائه وطلابه .. نشأ أخي الأستاذ محمد السفياني في بيت فضل ودين وصلاح وفقه ووقار وقد فقد والده رحمه الله وهو صغير، لكن عمه العربي السفياني كان له نعم الأب ونعم العم لذلك لم يشعر باليتم في ظل حنان والدته الصالحة ورعاية عمه وزوجته وقد أدركت الثلاثة وكنت أدخل بيتهم كأني منهم إذ كان بيتهم جوار بيت جدي رحم الله الجميع. حفظ القرآن مبكرا ثم تابع دراسته في العلوم الشرعية بالجامع الأعظم في حين انتقلت أنا من المسيد إلى سكويلا لكن شاء الله أن نلتقي بالقرويين بفاس ابتداء من سنة 1946 وقد ظللنا بها نحن البعثة الشفشاونية نحوا من ست سنوات، في حين التحق أخونا النابغة الأستاذ عبد القادر الخزاني رحمه الله بالتعليم معلما بوطاط الحاج والمكي بن الحسن الريسوني رحمهما الله انتقل منها معلما بمكان أنسيت اسمه والأستاذ عبد القادر العافية بمدرسة المعلمين بمراكش أما كاتب هذه السطور فالتحق بسوريا ثم لبنان ثم مصر من سنة 1952 1958- ولما وقع الاعتداء على المغرب بخلع محمد الخامس رحمه الله اضطربت الأحوال بفاس مما اضطر بقية البعثة الشفشاونية إلى العودة إلى بلدها ومتابعة الدراسة العليا بتطوان، ومنهم من التحق للعمل في سلك المعلمين إلا الأستاذين المحمديْن: شهبون الذي التحق بالقاهرة سنة 1954 وبوعسل ببغداد عبر القاهرة، وقد عزم الأستاذان محمد السفياني وأحمد أفزاز الالتحاق بنا بمصر سنة 1956 إلا أن العدوان الثلاثي حال دون تحقيق بغيتهم رغم أنه كان قد حاز عالمية المعهد العالي بتطوان فالتحق بالتعليم أستاذا بالمعهد الديني بشفشاون الذي ظل فيه أستاذا وناظرا ومديرا إلى قبيل تقاعده حيث ألحق بخُطَّة الحسبة التي أراد الحسن الثاني رحمه الله أن يحييها ويجعل منها حسبة كما كانت إبان حضارتنا المزدهرة غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن ورغم ذلك فقد اضطلع بتلك الخطة وفق الشرع مقيما للعدل بين المتخاصمين لا يحابي ولا يجاري وإنما يلتزم بما يراه حقا وبما يراه أصحاب المعرفة والنظر من أمناء ونقباء الحرف والمهن وكان خلال ذلك وقبل ذلك يضطلع بإمامة الجمعة بالجامع الأعظم الذي كان يتولاه كبار العلماء والقضاة وقد آلت إليه بعد وفاة أخيه الفقيه السيد الهاشمي السفياني كما كان يتولى التدريس تطوعا والوعظ والإرشاد إلى أن ثقل عليه مرض السكري الذي لازمه أكثر من عشر سنوات، كما تنازل عن رئاسة فرع رابطة العلماء الذي كان من مؤسسيها. وكان الأستاذ محمد السفياني وأخوه الفقيه الهاشمي السفياني يضطلعان بما يعرف اليوم بعد موجة المصطلحات الجديدة برسالة المجتمع المدني من أعمال البر والمرحمة، وكانا يتعاونان مع بعض أحبابهما وأصحابهما في الداخل والخارج. وكانا يؤديان ذلك في كتمان وانزواء دون أن يشعر بهما أحد، ويوصلان الأمانات إلى أهلها في جنح الظلام كما يقومان بإصلاح ذات البين ونشر الأخلاق الفاضلة، ولا نعرف أن هذه الأسرة الكريمة الأصيلة نازعت أحدا أو نازعها أحد مع التزامه سمت العلماء والفضلاء. كان بيت الأستاذ السفياني رحمه الله بيت كرم وجود لا يكاد يمر أسبوع من اسقبال ضيف من المدن أو القرى القريبة والبعيدة ... كما كان الرجل حكيما أديبا أريبا يصوغ أفكاره في نكات و حكم ما يزال إخوانه يتناقلونها إلى اليوم فقد تركها تراثا حيا في ميدان السياسة والاجتماع والثقافة، فالمجلس الذي يكون فيه أخي الأستاذ السفياني لا يخلو من فائدة علمية أو فكرة عن الحياة بالداخل أوالخارج مصوغة صياغة رائعة معبرة أدق تعبير وأوضحه عن المراد وقد كنا نستمتع دائما بمجالسته ومحادثته مع عفة لسان ونقاء ضمير وسلامة صدر .. لقد فقدنا بموته ركنا من أركان البناء الإخواني الذي شيدناه منذ نحو من سبعين سنة وها نحن نودع أعضاءه من حين لآخر بعدما فقدنا شيوخنا الأجلاء الذين لم يبق لنا منهم سوى أفراد قلائل ربما لا يتعدون بالنسبة لي ولبعض زملائي اثنين بالمغرب وبالذات بفاس وهما الأستاذ الفقيه الأديب السيد عبد الكريم العراقي والأستاذ الفقيه ذو التآليف والأبحاث العديدة الحاج أحمد الحبابي وكل طلاب شفشاون اشتركوا في الأخذ عن العلامة العراقي وبعضنا فقط أخذ عن العلامة الحبابي بارك الله في عمرهما... لقد خسرت قافلتنا خلال هذا الشهر المبارك أحد روادها الأبرار وليس لنا إلا أن نردد ما أمرنا الله به في مثل هذه الأحوال إنا لله وإنا إليه راجعون وعزاؤنا لزوجه الصابرة المحتسبة السيدة الحاجة ربيعة ولأنجاله الكرام وأصهاره ونسبائه ولا سيما آل زيطان الأكارم ولمدينة شفشاون المكلومة بفقدان أمثال هذا الرجل الفذ، سائلين الله أن يغفر له ذنبه ويقبل توبته ويكرم نزله ويجعل مأواه الفردوس الأعلى ويلحقنا به مسلمين مؤمنين موحدين تائبين مقبولين عند الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أ.د / عبد السلام بن محمد الهراس