تكتسي اللغة القانونية أهمية قصوى ليس فقط من الناحية الثقافية و التواصلية لكونها وسيلة لنقل الأفكار وذاكرة لتاريخ الشعوب، بل لكونها أيضا أداة للتأصيل والتقعيد القانوني والتقنين، أي وضع و صياغة الضوابط القانونية، كما أنها تفيد في فهم القصد القانوني لدى المشرع. و بذلك يشكل النص القانوني عصب النظام القانوني، حيث يقع تنزيل النص القانوني ضيفا على الدرس اللغوي والنصي في محاولة لإكتشاف أصول اللغة القانونية وتحديد مصادر الخصوصية اللغوية و البنائية لطبيعة النص القانوني، و مدى تفاعله بإعتباره نصا لغويا يرتبط إرتباطا وثيقا بالسياق الإجتماعي الذي يتم إنتاجه في إطاره. و عليه تعكس اللغة القانونية تفاعلا لغويا بين المشرع والمخاطبين بأحكام القانون، كما تترجم أيضا السمات النصية للغة القانون وكذا وسائل التماسك اللفظي والمعنوي بين النصوص القانونية. فماهي أهم الخصائص البنائية واللغوية المميزة لتصدير الوثيقة الدستورية التي أقرها الشعب المغربي بموجب إستفتاء فاتح يوليوز 2011؟
1-الوحدة اللغوية و الموضوعية في خدمة تماسك النص الدستوري
تضمنت الفقرة الأولى من تصدير الدستور المغربي الحالي أهم المبادئ التي ترتكز عليها الدولة المغربية، حيث وقع التأكيد على بناء الدولة الديموقراطية التي يسودها الحق والقانون، و في ذلك إشارة قوية إلى أهمية الإستعمالات من الجُمَل التي تم توظيفها في هذه الديباجة، حيث طغت الجمل الإسمية على الجمل الفعلية رغبة من المشرع الدستوري لتقديم التعريفات المميزة للدولة المغربية (إن المملكة المغربية، وفاءا…(الفقرة الأولى)، المملكة المغربية دولة إسلامية…( الفقرة الثانية)، و إدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي…( الفقرة الثالثة)). كما ترجمت البنية التركيبية للجمل التي تم إستخدامها في الفقرتين الأولى والثانية من تصدير الدستور توظيف عبارات قانونية ومصطلحات يقع تحديد معانيها بدقة، مما يحذو بنا إلى القول بكون المشرع يسعى لتوظيف لغة دقيقة و تقنية، كما هو الشأن مثلا أثناء بيان مفهوم الدولة الديموقراطية التي جعل من مرتكزاتها الأساسية سيادة الحق و القانون، أو عند تعريف الدولة الحديثة، حيث أبرز مقوماتها في المشاركة و التعددية و الحكامة الجيدة و إرساء دعائم مجتمع متضامن يرتكز على الأمن و الحرية و الكرامة و المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الإجتماعية. و يستمر المشرع الدستوري المغربي في الفقرة الثانية في إستعراض خصائص و مميزات الدولة المغربية من خلال جمل إسمية من خلال إشارته مثلا إلى أن الدولة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، مشيرا إلى أن الدين الإسلامي جزء لا يتجزأ من الهوية المغربية، و في ذلك تأكيد على إسلامية الدولة المغربية بمؤسساتها و هيئاتها، و أن دينها الرسمي هو الدين الإسلامي، و أن تماسك الشعب المغربي قوامه التشبع بقيم الإنفتاح والإعتدال والتسامح و الحوار. كما يسترسل المشرع في توضيح الهوية الوطنية القائمة على إنصهار كل مكونات المجتمع المغربي الغنية بروافده المتعددة. و ينتقل بعد ذلك المشرع الدستوري في الفقرة الثالثة و الرابعة إلى تبيان الدور الذي تقوم به المملكة المغربية في إشعاعها القاري و العربي و الدولي من خلال توظيف بعض الأفعال المضارعة تأكيدا على إنخراط إلتزاماته في هذا الإطار ضمن السيرورة الزمنية، حيث يتعهد المغرب بإلتزام ما تقتضيه مواثيقه من مبادئ و حقوق و واجبات، و يؤكد أيضا على تشبت المملكة بحقوق الإنسان، كما لا يقع ترك مفهوم حقوق الإنسان على إطلاقه وإنما يقيده بعبارة كما هي متعارف عليها عالميا، مما يفيد الإنضباط للقيم العالمية في مجال حقوق الإنسان و ما أقرته المواثيق الدولية في هذا الخصوص. ثم يشير المشرع الدستوري عطفا على العبارات السابقة التي وظفها في صيغة المضارع بإستخدام فعل "يؤكد" و يوصله بالمصدر "عزم" تأكيدا على مواصلة العمل للمحافظة على السلام و الأمن في العالم. و في نفس السياق، نجد المشرع يواصل التأكيد على قيمه الراسخة في علاقاته مع محيطه الخارجي، و هي القيم المرتكزة على ترسيخ روابط الإخاء و الصداقة و التعاون والشراكة البناءة و تحقيق التقدم المشترك سواء من خلال العمل على بناء الإتحاد المغاربي و تعميق أواصر الإنتماء إلى الأمة العربية و الإسلامية، و كذا تقوية روابط التعاون و التضامن مع البلدان الإفريقية و الأورومتوسطية، بالإضافة إلى توطيد العلاقات جنوب-جنوب و كذا حماية منظومتي حقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني و مكافحة مختلف أشكال التمييز، و جعل الإتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب تسمو فور نشرها على باقي التشريعات الوطنية مع ما يتطلبه ذلك من ملاءمة للتشريع الوطني مع مقتضيات التشريع الدولي. و في الأخير يؤكد المشرع الدستوري على القيمة القانونية لديباجة الدستور بإعتبارها جزءا لا يتجزأ من الوثيقة الدستورية، و في ذلك تجاوز للنقاش الفقهي الذي دار حول هذه المسألة في ظل الدساتير السابقة للمملكة، و ترجيح في ذات الوقت للرأي الذي يذهب إلى كون مقتضيات تصدير الدستور المغربي لا تقل أهمية من الناحية القانونية عن باقي الأحكام الواردة في باقي أبوابه. تحيلنا إذن الدراسة النصية لمقتضيات تصدير الوثيقة الدستورية إلى أمر يقع على غاية من الأهمية في ما يخص إنسياب عرض الأحكام والمقتضيات القانونية، حيث وقع ترتيب الأحكام وفق منطق قانوني يحترم التراتبية المعيارية التي تمتاز بها الصياغة التشريعية، وذلك من خلال الإنتقال من العام من الأحكام إلى الخاص منها، وفق تدرجية تستجيب لروح المنهج الإستنباطي الذي يتسق و طرح المفاهيم و المبادئ العامة قبل الخاصة. و حري بالبيان في هذا الصدد، أن الطبيعة الموضوعاتية لتصدير الدستور تتناغم مع هذا المنطق القانوني في طرح المقتضيات القانونية، على إعتبار أن ديباجة الدساتير عموما تكشف عن الفلسفة العامة لنظام الدولة دون أن تقتحم عوالم الحقوق و الحريات الأساسية للأفراد أو تبوح بخصوصيات النظام السياسي و الدستوري للدولة في تفاصيله التي تشرح العلاقات في ما بين المؤسسات الدستورية. و عليه تكون السمة الغالبة على اللغة القانونية المعتمدة في تصدير دستور سنة 2011 هي توظيف الجمل الإسمية و الإبتعاد عن أسلوب التقرير. و هو ما يدفعنا لتسجيل نقلة نوعية في تقديم المادة الدستورية ضمن أسمى وثيقة قانونية للدولة مقارنة مع الصياغة المعتمدة في تصدير دستوري سنة 1992 و سنة 1996، حيث قلة الأحكام القانونية الواردة فيها تنأى بالباحث عن التنقيب في خصوصيات البناءات و الصيغ المعتمدة في التصدير الدستوري. علاوة على ما تقدم، تبرز أيضا أهمية هذا المعطى السالف الذكر في طرحه لمضامين التصدير ضمن وحدة موضوعية تحترم محددات المعجم القانوني الذي إستقى منه المشرع جهازه المفاهيمي الذي ينتمي إلى اللغة الضابطة بمفرداتها و تراكيبها، التي لا مجال فيها للإستطراد أو الحشو أو الإطناب بشكل يصون الوحدة العضوية للبنية المصطلحية لتصدير الوثيقة الدستورية و يعزز من تماسكها. إن الخصائص اللغوية في الصياغة القانونية لهذا التصدير تنبني على أساس الوضوح والدقة بما تقتضيه الصياغة الدستورية من حسن إنتقاء المصطلحات الدالة على المعاني المطلوبة من خلال بعض الصيغ الشرطية و العبارات المقيدة للأحكام و المفاهيم و التي تفيد تقييد نطاق الحكم القانوني. و هو ما جعل النص الدستوري يتصف بالوحدة اللغوية المستقلة ويعمل في إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامه نسيجا متآلفا و متماسكا بحيث يكون لكل فقرة أحكامها التي تستقل بها عن غيرها من الفقرات الأخرى إستقلالا لا يعزلها في ذات الوقت عن بعضها البعض، و إنما يجعلها بنيانا واحدا و متماسكا تؤدي من خلاله وظيفة تواصلية و معيارية، تجعل في المحددات البنائية و الصيغ الدلالية المعتمدة فيها توحي بالكشف عن خاصية جديدة مؤداها تطابق المحددات البنائية للنص الدستوري مع المعطيات السياقية التي أنتجته. 2-المحددات البنائية و السياق العام: جدلية التأثير و التأثر مما لاشك فيه أن هذا الدستور، الذي مر على إعتماده أربع سنوات، سجل نقلة نوعية في المجال الحقوقي و القانوني، لأنه أقر مبادئ الحكامة الجيدة التي تعد لازمة لأي تغيير سياسي، كما كرس الفصل بين السلطات وأنضج السلطة التنفيذية بالمغرب، من خلال تمكين مؤسسة رئيس الحكومة من صلاحيات مهمة لا تجعل من القائم عليها رئيسا حقيقيا للسلطة التنفيذية، و إنما على الأقل المنسق العام لسياسات الإدارة العمومية. فنجاح الإستثناء المغربي في تدبير أحداث الربيع الديموقراطي العربي تكمن في حسن تقدير المخاطر و ملء الفراغ السياسي، غير أن الدستور لوحده غير قادر على صنع التحول، ففصوله قد تبقى بدون روح إذا غابت المبادرة السياسية عن النخبة الحاكمة. فالتطبيق الحقيقي لهذه الوثيقة السامية ضمن هرم تدرج قواعد القانون يحتاج إلى إخراج القوانين التنظيمية إلى أرض الواقع، لأنها الإمتداد الطبيعي لمقتضيات الدستور و النفس الطبيعي لتأويل مقتضياته، و الذي في تقديرنا نجحت الحكومة في تنزيله إعتمادا على مقاربة تشاركية وتدرجية شكل المخطط التشريعي إطارها المنهجي ضمن سابقة تعد الأولى من نوعها في مجال تبني تقنيات الهندسة التشريعية. إن هذا التناغم و الإتساق بين الخصائص البنائية و اللغوية الحاضرة في لغة الدستور يحيل أيضا على الدور الذي تلعبه هذه الوثيقة في تنظيم شؤون الحكم و العلاقات بين السلطات، فكلما كان الضبط اللغوي و الإحكام في الصياغة التشريعية، كلما كانت قواعد اللعبة السياسية واضحة و محددة. غير أن تأهيل المشهد السياسي المغربي يتطلب أكثر من ذلك مواكبة للمتغيرات الدولية من أجل رفع رهانات تحقيق التنمية و إعتماد آليات المصاحبة وإرساء ضوابط الحكامة التشريعية، مع ما يتطلبه ذلك من يقظة و تتبع قانونيين في أفق إقرار إستراتيجية لهندسة التشريع المغربي. فالتتبع القانوني ينبغي أن يساءل الإجتهادات المحققة في مجال التشريع بالشكل الذي يوظف قانونيا في خدمة الإستقرار السياسي عن طريق إعتماده مراعاة للخصوصيات الوطنية وتطبيقها التطبيق الأمثل، و من دون إغفال لظاهرة التنافس التشريعي القائمة اليوم بين الأنظمة القانونية، و التي حولت المشهد القانوني إلى سوق حقيقي يتكون من منتجات وبائعين ومشترين. و الملاحظ أن مثل هذه الآليات تغيب عن التدبير العمومي الحالي كما تغيب لحد الآن مسألة إعتماد أجهزة متخصصة في اليقظة و التتبع القانوني، اللهم إلا بالنسبة لبعض المصالح المتفردة ضمن هياكل بعض الوزارات، و التي و إن كانت تحمل تسمية التتبع واليقظة القانونية، إلا أن مهامها الرئيسية لا تخرج عن إطار تحيين و تتبع النصوص التشريعية المرتبطة بقطاعها، دون أن تحمل هذا الهاجس العام المتمثل في تدبير المخاطر القانونية و تحليل الآثار المرتقبة للتشريعات المعتمدة ضمن إستراتيجية الهندسة والذكاء القانوني المعتمدة في الدول المتقدمة. فالحاجة ماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالنسبة لخيار تأهيل التشريع المغربي لإعتماد هذه الإستراتيجية الذكية في المجال التشريعي، حيث يبدو من المفيد خلق مرصد وطني توكل إليه مهمة التتبع و اليقظة القانونية، و يكون متمتعا بالشخصية القانونية وبالإستقلالية المالية حتى يضطلع بالمهام الموكولة إليه بكل حياد وتجرد فيما يخص تتبع و رصد تطور النصوص القانونية و التشريعية، حتى تكون قراراته وتوصياته ذات قوة إقتراحية تساهم في بلورة السياسات العامة في المجالات التنموية. فلا يقتصر الأمر على صياغة تشريعية تسهم بشكل جلي في معرفة شمولية بحاضر القانون من أجل تسخيره في خدمة التنمية، بل يتعين أكثر من ذلك إستشراف مستقبله وبرمجة الإستراتيجيات المختلفة على ضوئه. فمن الضروري تتبع و مراقبة و دراسة إعداد مشاريع ومقترحات القوانين، لأن المعرفة السليمة و الحقيقية بالبيئة القانونية هي التي تمكن من ترقب المخاطر الناجمة عنها، لذلك نجد الجماعات الضاغطة لا تحاول الوقوف عند حدود هذا المستوى من التأثير على الصياغات القانونية، بل و كذا توجيه القاعدة القانونية على النحو الذي توجه من خلاله البيئة التشريعية نحو الوجهة التي تخدم مصالحها الخاصة، و هو ما يكشفه نموذج القانون المالي السنوي الذي تبدأ وثيرة الإتصالات بشأنه تتصاعد بين الفاعلين السياسيين و اللوبيات المختلفة كلما إقترب موعد مناقشة هذا القانون لتنتصر بذلك مقولة القانون مرآة لصراع المصالح على غيرها من المقولات التي تقدمها سوسيولوجية القانون.