إن الطعن في قانون معين بمباشرة دعوى رقابة الإلغاء، إنما يمارس حيادا عن أي دعوى رائجة، فهذا النوع من الطعون هو ما يعرف بالرقابة القضائية عن طريق الدعوى، عكس ما هو عليه الوضع عند إعمال مبدأ الرقابة عن طريق الدفع. وفيما يتعلق بممارسة رقابة الإلغاء من طرف الأفراد يجب أن يتم التنصيص صراحة على إسناد هذا الاختصاص في صلب الوثيقة الدستورية إلى القضاء، وعادة ما تتولاه محكمة قضائية عليا أو محكمة دستورية مختصة تنحصر وظيفتها في ممارسة الرقابة على دستورية القوانين أو النظر في طعون معينة خصها بها الدستور، ففي مصر أوكل المشرع الدستوري الفصل في دستورية القوانين إلى المحكمة الدستورية العليا (دستور 1971). إن الرقابة القضائية على دستورية القوانين عن طريق الدعوى الأصلية لجديرة بالملاحظة، خاصة أن البرلمان قد يصدر قانونا مخالفا للدستور أو على الأقل قد يتضمن مقتضيات مخالفة للدستور، وهذا الأمر قد يتحقق بالنسبة للقوانين العادية التي يصدرها البرلمان دون أن تكون موضوع طعن من طرف الجهات المخول لها ذلك بمقتضى الدستور (الملك أو رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خمس أعضاء مجلس النواب أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين ). فالرقابة الاختيارية، أي غير الوجوبية، قد يترتب عنها إصدار قوانين، وهي مخالفة للدستور، بالنظر إلى كونها لم تكن محل رقابة سياسية وقائية سابقة لإصدارها من طرف المحكمة الدستورية (المجلس الدستوري)، وبالتالي يتولد عن هذا الوضع تعارض القانون الأدنى مع القانون الأعلى، علما أن المحاكم ملزمة باحترام مقتضيات الدستور عن طريق الامتناع عن تطبيق القوانين المخالفة له، وهذا النوع من الرقابة هو رقابة امتناع أو رقابة عن طريق الدفع. أولا: مجال الرقابة القضائية على دستورية القوانين عن طريق الدعوى الأصلية: إن الدستور المغربي نظم موضوع الرقابة على دستورية القوانين فأسندها إلى هيئة بعينها، هي المحكمة الدستورية، التي تنفرد باحتكار مجال الرقابة الدستورية لا تتقاسمه مع أي جهة قضائية أو غير قضائية، فهو اختصاص مطلق. إن الدعوى الأصلية تستهدف إلغاء وإبطال القانون غير الدستوري، فهي وسيلة هجومية يمارسها الطاعن حيادا عن أي نزاع عندما يقرر الدستور ممارسة اختصاص رقابة الإلغاء، وعلى العكس من ذلك، فإنه يتعذر عليها مباشرة الرقابة اللاحقة، خاصة إذا علمنا أن الدستور المغربي لا يجيز للأفراد والمنظمات والأحزاب الطعن بعدم دستورية القوانين عن طريق الدعوى الأصلية، سواء تعلق الأمر بالرقابة السابقة (الرقابة السياسية) أو الرقابة اللاحقة، وعليه فالرقابة القضائية على دستورية القوانين عن طريق الدعوى، مجالها القضاء الدستوري، ويتولاها قبل إصدار الأمر بتنفيذها تطبيقا لمقتضيات الدستور المغربي بناء على إحالة من ذوي الصفة، عندما تكون الرقابة اختيارية (القوانين العادية) أو ضمن آلية الرقابة الوجوبية عندما يتعلق الأمر بالقوانين التنظيمية. وفي هذه الحالة نكون أمام رقابة الإلغاء السابقة، فرقابة الإلغاء اللاحقة لا مكان لها في الدساتير المغربية باستثناء الحالة الفريدة التي قررها دستور 2011، والمتمثلة في الرقابة عن طريق الدفع، لكنها لم تسند إلى المحاكم، بل أوكلها المشرع الدستوري إلى المحكمة الدستورية. ويفهم من القانون الدستوري المغربي أنه لا ينص على جواز الطعن في دستورية قانون صدر وأصبح نافذا عن طريق دعوى ترفع بصفة أصلية إلى القضاء للحكم بإلغائه، فهذا الاختصاص تتولاه حصريا المحكمة الدستورية (المجلس الدستوري) ضمن آلية رقابة الإلغاء السابقة على إصدار القانون، وليس لاحقة لإصداره، فالدول التي تأخذ بنظام رقابة الإلغاء اللاحقة عن طريق رفع دعوى أصلية عادة ما يتم إسناد الفصل في الدعوى الدستورية إلى محكمة قضائية عليا، ينضاف إلى جانب اختصاصها القضائي كدستور سويسرا، كما قد يسند الفصل في الدعوى إلى محكمة دستورية متخصصة ينحصر اختصاصها في النظر في الطعون المتعلقة بدستورية القوانين دون غيرها من الطعون، وهو الطريق الذي أخذت به مصر في دستورها الصادر في سنة 1971، الذي بموجبه تم إسناد الفصل في دستورية القوانين إلى المحكمة الدستورية العليا بصفة حصرية، إلا أن النظام الدستوري المغربي لم يأخذ بنظرية رقابة الإلغاء اللاحقة منذ دستور 1962، معتمدا بذلك نهج المشرع الدستوري الفرنسي ذي النزعة الرقابية القبلية، أي أخذه برقابة الإلغاء السابقة على إصدار القانون، وبذاك لا مجال لممارسة الرقابة القضائية من طرف المحاكم على دستورية القوانين عن طريق الدعوى الأصلية. هذا التأويل يعتبر في نظرنا خاطئا، لأنه لا يجد له سندا في الدستور، ليمكن القول بأن المحاكم ليس من حقها ممارسة أعمال الرقابة على دستورية القوانين العادية، خاصة إذا لم تكن موضوع رقابة سابقة يتولاها المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية)، أخذا بعين الاعتبار أن «السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية». فإصدار قوانين قد تكون ماسة بالحقوق والحريات أجازت التشريعات الدستورية المقارنة الطعن فيها عن طريق الدفع وهو غير طريق الطعن بواسطة دعوى أصلية، ففي الحالة الأولى يستهدف الدفع التصريح بعدم دستورية القانون لعدم تطبيقه على الدعوى وإبعاده، وفي الحالة الثانية الغاية من الطعن إلغاء القانون. إنه من المعلوم أن التشريع الدستوري تسمو قواعده على قواعد القانون العادي، وبناء على قاعدة تدرج القوانين، فالتشريع العادي لا يمكنه أن يعدل أو يلغي مقتضيات تضمنها الدستور، لسبب بسيط، هو أن الدستور يتم إقراره عن طريق مسطرة الاستفتاء، وبعد إعلان المجلس الدستوري موافقة الشعب المغربي على مشروع الدستور، يصبح ملزما للجميع (الفصل 70 من دستور 1996). في المقابل يعرف القانون بأنه كل تشريع يصدر عن البرلمان، لأن كل تشريع هو بالضرورة قانون، إلا أن كل قانون ليس بالضرورة تشريعا. إن التأكيد على هذه المبادئ الدستورية والقانونية الغاية منه محاولة تبيان التعارض القائم بين القواعد الدستورية والقواعد القانونية فيما يتصل بإعمال مبدأ الرقابة على دستورية القوانين من طرف المحاكم، فالدستور لم يقرر بأنه يحظر على الأخيرة فحص دستورية قانون معين عند الدفع به من طرف أحد أطراف الدعوى المعروضة عليها. وبالمقابل نجد بأن الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية والفصل 50 من القانون 90-41 يقرران أنه «لا يجوز للجهات القضائية أن تبت في دستورية القوانين». إن التنصيص على منع المحاكم من البت في دستورية القوانين بناء على قانون عادي سنه البرلمان يدفعنا إلى القول بتحقق حالة التنازع بين قانونين متعارضين في المرتبة والدرجة، صادرين عن مشرعين مختلفين، وهكذا فالمقرر هو أن التشريع الأعلى (الدستور) يلغي التشريع الأدنى (القانون) والعكس غير صحيح، علما أن السلطة ملزمة بالخضوع لمبدأ تدرج القوانين، إذ يتقيد الأدنى بالأعلى. وهكذا، فمبدأ دستورية القوانين يوجب، في حالة تعارض قانون أو تشريع مع نص دستوري، أن هذا القانون أو التشريع يعتبر غير دستوري، وهو ما ينطبق على الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية والفصل 50 من القانون 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية، عند تنصيصهما على عدم الجواز للمحاكم البت في دستورية القوانين. والحال أن الدستور المغربي لم يقرر هذا المنع أو أنكره على القضاء، والبرلمان حين سنه لنص يقضي بحرمان القضاء من البت في دستورية القوانين، يكون قد تجاوز صلاحياته بتعديه على سلطة التأسيس (الدستور) وعلى سلطة القضاء، علما أن البرلمان هو بدوره سلطة متفرعة عنه، وبذلك فهو ملزم باحترام مبدأ فصل السلطات، ولا يحق له بأي حال من الأحوال أن يصدر قوانين عادية تتعارض مع الدستور، فالقضاء يستلزمه احترام الدستور وإهمال القانون العادي عند معاينته قيام حالة تعارض القانون مع الدستور، لأن وظيفة القاضي تطبيق القانون والفصل في المنازعات. فعندما يعرض عليه نزاع يحكمه قانونان متعارضان، فإنه يأخذ بالقانون الأعلى درجة ويستبعد الأدنى منزلة، وبهذه المناسبة يكون القضاء قد أهمل تطبيق النص الأدنى وأخذ بالنص الأعلى مرتبة، احتراما لمبدأ تدرج القواعد القانونية، فهو لم يصرح بإلغاء القانون وإنما امتنع عن تطبيقه، أي أنه مارس رقابة الامتناع أو رقابة عن طريق الدفع على دستورية القوانين، دون المساس بأي مقتضى دستوري قد يساءل عنه القاضي. وعلى العكس من ذلك، فهو أهمل الأخذ بقانون غير دستوري، وهذا ما يندرج ضمن صميم عمل القاضي، فالمحاكم واجب عليها استبعاد التشريع المخالف للدستور، وهذا الأمر لا يتعارض مع المبدأ القائل بأن على القضاء أن يحترم التشريع، لكن هذا المعيار يكون ملزما متى كان التشريع مطابقا للدستور ومحترما قاعدة تدرج القوانين، لأنه لا تعارض في رقابة القضاء على دستورية القوانين مع مبدأ فصل السلط، لأن السلطتين التشريعية والقضائية ملزمتين باحترام الدستور، وأن مبدأ فحص دستورية القانون من النظام العام يحق للمحكمة إثارته تلقائيا، لأنه في حال تعارض قاعدة دستورية (أعلى) مع قاعدة قانونية (أدنى)، فإنها ملزمة بتطبيق القاعدة القانونية الأعلى وأن تمتنع عن تطبيق القانون المخالف للدستور. مصطفى بن شريف - محام، دكتور في الحقوق