رغم أن الفقه يحبذ الأخذ بالرقابة القضائية لدستورية القوانين، فهذا لم يمنع من بلورة بعض المآخذ، فما هي أشكال الرقابة القضائية؟ وما هي هذه المآخذ؟ تنقسم المراقبة القضائية على دستورية القوانين إلى نوعين: رقابة إلغاء ورقابة امتناع. 1 تفيد رقابة الإلغاء اختصاص هيئة قضائية «خاصة» بإلغاء قانون أحيل عليها إذا ما ارتأت أن مقتضياته مخالفة لأحكام الدستور، ويترتب عن هذا الإلغاء «إعدام» القانون، بحيث يتم اعتباره كأن لم يكن ويطال كافة القضايا وجميع الأفراد. واعتبارا لأهميته وخطورة ما يترتب عنه من آثار، فإن المشرع في الأنظمة السياسية التي تعمل برقابة الإلغاء يحرص على التنصيص عليه في الدستور مع تحديد الهيئة القضائية التي توكل إليها مهمة النظر في دستورية القوانين، بحيث يسند الاختصاص إلى المحكمة العليا في الدولة أو يسند إلى محكمة دستورية. من الدول التي أسندت رقابة الإلغاء إلى المحكمة العليا هناك سويسرا من خلال دستورها الصادر سنة 1874، غير أن هذه الرقابة تطال القوانين الإقليمية فقط دون القوانين الفيدرالية. ومن الدول التي أوكلت رقابة الإلغاء إلى محكمة دستورية نذكر على سبيل المثال: إيطاليا من خلال دستورها الصادر سنة 1947 الذي أنشأ «المحكمة الدستورية» وأناط بها مراقبة دستورية القوانين، وتتشكل من 15 عضوا، يختص رئيس الجمهورية بتعيين ثلثهم، في حين يعود اختصاص تعيين ثلثيهم الباقيين إلى مجلسي البرلمان والهيئة القضائية العليا، وتتحدد مدة ولاية هؤلاء الأعضاء في 12 سنة. ألمانيا من خلال دستورها الصادر في تاريخ 23 مايو 1949 الذي أنشأ «المحكمة الدستورية الاتحادية» للنظر في دستورية القوانين، وتتشكل من غرفتين: الغرفة الأولى يرأسها رئيس المحكمة الاتحادية، وتختص بالنظر في المنازعات المرفوعة من قبل الأفراد والمتعلقة بانتهاك الحقوق الأساسية. والغرفة الثانية يرأسها نائب رئيس المحكمة الاتحادية، وتختص بالنظر في القضايا المتعلقة بحقوق الولايات. وتضم كل غرفة من الغرفتين ثمانية قضاة: أربعة ينتخبهم «البوندستاك» (= مجلس النواب) وأربعة ينتخبهم «البوندسترات» (= المجلس الفيدرالي الذي يمثل الحكومات الإقليمية). وباعتبار المكانة الهامة التي يحتلها رئيس محكمة الذي يرأس الغرفة الأولى ونائبه الذي يرأس الغرفة الثانية، فإنهما ينتخبان وفق مسطرة خاصة من طرف لجنة تتألف من 12 عضوا من مجلسي البرلمان، وتتحدد مدة ولاية الأعضاء في 12 سنة غير قابلة للتجديد. إسبانيا من خلال دستورها الصادر سنة 1978 والذي أنشأ «المحكمة الدستورية» للنظر في دستورية القوانين، وتتألف من 12 قاضيا، أربعة قضاة يقترحهم مجلس النواب، وأربعة قضاة يقترحهم مجلس الشيوخ، وقاضيان تقترحهما الحكومة، وقاضيان يقترحهما المجلس الأعلى للقضاء. وتتحدد مدة ولاية الأعضاء في تسع سنوات مع تجديد ثلثهم مرة كل ثلاث سنوات وتحديد مدة ولاية رئيس المحكمة في ثلاث سنوات. وتمارس حق الإحالة عليها الجهات التالية: الحكومة ورئيس الحكومة و50 عضوا من مجلس النواب و50 عضوا من مجلس الشيوخ والأجهزة التنفيذية والتشريعية للمجموعات المتمتعة بالحكم الذاتي. 2 تعتبر رقابة الامتناع نتاج التجربة الدستورية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث كانت هذه الأخيرة هي السباقة إلى تطبيق الرقابة القضائية لدستورية القوانين، ولكنها لم تأخذ برقابة الإلغاء بل أقرت رقابة الامتناع. إن دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية لم يقرر رقابة الامتناع ولم يوكلها إلى السلطة القضائية، بل القضاء هو الذي اعتبر أن ممارسته للرقابة تشكل جزءا من وظيفته، ويعود ذلك إلى سنة 1803. حيث أصدرت المحكمة العليا حكما مشهورا في قضية «ماربوري» ضد «ماديسون»، ورد في حيثياته أن «وظيفة القاضي هي تطبيق القانون، ولكن عندما يتعارض القانون العادي مع أحكام الدستور، فالقاضي ملزم بتحديد القانون الواجب اتباعه. وفي هذه الحالة، فإن أحكام الدستور أولى بالاتباع نظرا إلى كونها تعبيرا عن إرادة الأمة، صاحبة السيادة. وعليه، فإن امتناع القاضي عن تطبيق قانون عادي مخالف للدستور لا يعتبر اعتداء على صلاحيات السلطة التشريعية، بل هو إعمال لمبدأ سمو الدستور». لقد سلكت جميع محاكم الولاياتالمتحدةالأمريكية نهج المحكمة العليا، حيث خولت نفسها حق ممارسة رقابة الامتناع، وهي رقابة لا تهدف إلى إلغاء القانون الذي تخالف مقتضياته أحكام الدستور، وإنما تهدف إلى الامتناع عن تطبيقه. تمارس هذه المحاكم رقابة الامتناع في حدود اختصاصها، فالمحاكم الفيدرالية تراقب دستورية القوانين الصادرة عن الولايات، سواء كانت عادية أو دستورية، وكذلك القوانين العادية الصادرة عن الكونغرس بمجلسيه: مجلس النواب ومجلس الشيوخ. أما محاكم الولايات فإنها تختص بالنظر في دستورية القوانين الصادرة عن «برلمان» كل ولاية. يجب التمييز في مباشرة محاكم الولاياتالمتحدةالأمريكية لرقابة الامتناع بين حالتين: تكمن الحالة الأولى في مباشرة رقابة الامتناع بعد تنفيذ القانون/مسطرة الدفع، حيث لا تثير المحاكم مسألة دستورية القوانين من تلقاء ذاتها، بل تثيرها بناء على طلب أحد المتقاضين في دعوى مرفوعة أمامها، يرى أن القانون الذي يراد تطبيقه عليه غير دستوري. هنا تكون المحكمة ملزمة بفحص هذا الدفع بعدم دستورية القانون المزمع تطبيقه في النازلة. فإذا تبين للمحكمة أن هذا الدفع صحيح، تمتنع عن تطبيق القانون. وهذا الإقرار بعدم دستورية القانون لا يفيد إلغاءه بل يظل قائما، وقد تطبقه محكمة على نازلة مماثلة معروضة أمامها، بل قد تعتبره نفس المحكمة مطابقا للدستور في نازلة أخرى. تكمن الحالة الثانية في مباشرة رقابة الامتناع فور صدور القانون، حيث تمارس المحاكم رقابة الامتناع وفق هذه الحالة من خلال مسطرتين: المسطرة الأولى: مسطرة الأمر القضائي، حيث يمكن لأي مواطن أن يلجأ إلى المحكمة طالبا منها إقرار عدم دستورية قانون قبل تطبيقه أو تنفيذه باعتبار أن تنفيذه من شأنه أن يلحق به ضررا. وإذا اتضح للمحكمة عدم دستورية القانون، تقوم بتوجيه أمر قضائي إلى الموظفين المختصين بالامتناع عن تنفيذ ذلك القانون. وقد استخدمت هذه المسطرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ونظرا إلى ما يمكن أن يترتب عن استخدام هذه المسطرة من تعطيل لتنفيذ القانون، عمل الكونغرس على إحاطتها بنوع من القيود حرصا على عدم إساءة استعمالها، وذلك من خلال سن قانون سنة 1910 يقضي بعدم صلاحية القاضي الفرد في إصدار أوامر قضائية وجعلها من اختصاص «محكمة اتحادية» خاصة تتألف من ثلاثة قضاة مع إمكانية الطعن في قراراتها أمام المحكمة العليا الاتحادية مباشرة. المسطرة الثانية: مسطرة الحكم التقريري، حيث استخدمت من طرف محاكم الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ سنة 1918. ورغم أن المحكمة العليا الاتحادية رفضت في البداية اللجوء إلى هذه المسطرة، باعتبار أن اختصاص المحكمة هو النظر في المنازعات، وهو شيء غير متوفر في مسطرة الحكم التقريري، فإن هذه المسطرة ترسخت قانونيا بسن الكونغرس لقانون سنة 1934، يمنح بموجبه المحاكم حق إصدار أحكام تقريرية في القضايا المتعلقة بدستورية القوانين. وتتلخص مسطرة الحكم التقريري في لجوء المواطن إلى المحكمة ليطلب منها إصدار حكم يقرر ما إذا كان القانون الذي يراد تطبيقه عليه مطابقا لأحكام الدستور. ويترتب عن هذا الطلب توقف الموظف المختص عن تنفيذ القانون إلى حين صدور حكم تقريري بشأنه. يذهب الفقيه «ايسمن» إلى أن تكليف القضاة بممارسة رقابة دستورية القوانين هو إخلال بمبدأ فصل السلطات وتدخل واضح للسلطة القضائية في صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية، فالسلطة القضائية تختص بإصدار الأحكام طبقا للقوانين المعمول بها وليست مختصة بإصدار الأحكام على هذه القوانين، وبالتالي فإنه لا يجوز للقضاة مراقبة ما تصدره السلطة التشريعية من قوانين، ذلك أن السلطة التشريعية ستخضع، في حالة إصدارها قوانين مخالفة للدستور، لمراقبة الجسم الانتخابي عندما تنتهي مدة ولايتها. وعليه، فإن التسليم بصلاحية القضاة في ممارسة رقابة دستورية القوانين يفيد تخويلهم سلطة سياسية. ينطلق «ج.بوردو» في انتقاده للرقابة القضائية لدستورية القوانين من كون تطور الديمقراطية أفضى إلى التسليم باختصاص المجالس النيابية بوضع السياسة التشريعية للدولة، وبالتالي فإن مراقبة القضاة للقوانين يؤدي إلى إخضاع إرادة الأمة الممثلة في المجالس النيابية إلى المراقبة، إضافة إلى أن تعقد مهام الدولة جعل أمر تقدير المصلحة العامة من اختصاص السلطة التنفيذية.