تكثر التساؤلات هذه الأيام وكلها تعبر عن حيرة وتنتهي بحسرة، فهي تطلب إجابات دقيقة عن أحوالنا الراهنة: إسلاميًا وعالميًا، وكثيرًا ما يصل المتسائلون والباحثون عن توصيفات أو إجابات عن تلك التساؤلات والحيرة التي لا تنتهي ولا تتوقف ولا ترحم ولا يكاد يخلو منها أحد: من نحن؟ وأين نحن؟ وما الذي يجري؟ ولِمَ تغير الناس؟ وإلى أين هم ذاهبون؟ وإذا أخذنا الأمر من الآخر فقد نستطيع القول بأنَّنا ذاهبون إلى الله تعالى وإليه راجعون:﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾(الانشقاق:6)، ففروا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾(الذاريات:50). أمَّا إذا عُدنا إلى تساؤلاتنا الأولى، فنحن أمَّة من أمم الأرض، عهد الله إليها أن تكون وسطًا شاهدة على الغير بعد أن تتصف هي بالخير، وتتحلى به، ويسود تصرفاتها البر، وقد ثقلت هذه المهمة على ما يبدو على الأمَّة، فلم تعد حريصة عليها أو راغبة في القيام بها، فكانت النتيجة أن نسيت الأمَّة حظًا مما ذكرت به، وتنصلت من مهامها وواجباتها، وتمردت عليه فقست قلوبها. وقسوة القلوب مرض خطير إذا أصاب قلبًا جعله عرضة لتدني سائر أفكار العنف والتعسف التي قد تصل إلى حدود التدمير، وحين حدث هذا فقدت القلوب القاسية كل رغبتها في المحبة والألفة والمودة فلم تعد قادرة على التعارف فيما بينها، تعارفًا يمكن أن يرى كلًا منها شيء من محاسن الآخر، بحيث يمنعه ذلك من السقوط في معاداته وبغضه، فإذا كره بعض أعماله فلن يبلغ به حد القتل والتدمير بكل الوسائل، فنحن أمام مجموعة من القيم قد اختفت بتأثير قسوة القلوب. وقسوة القلوب داء له دواء واحد، هذا الدواء الواحد يقوم على تذكر الإنسان إنسانيَّته واستخلافه في الأرض، وائتمانه على ما فيها، وأخذ العهود الإلهيَّة عليه لأن يقيم الحق والعدل فيها، وما لم تسترد بعد إزالة قسوة القلوب فلن يكون هناك بين البشر ائتلاف ولا تعارف ولا تعاون، وسيختفي البِر ويسود الإثم، ويحدث ما نشهده في هذه الأيام من استهانة من الدماء، وجري وراء الفتن، واستعداد للسقوط فيها لدى الكثيرين، وهذا النوع من الفتن ليس من طبيعته أن يكون محدود الضرر والأثر بل إنَّ طبيعته أن يكون واسع الانتشار؛ لأنَّه مثل النار في الهشيم، ولذلك قال (جلّ شأنه) ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَة لَا تُصِيبَن الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيد الْعِقَاب﴾(الأنفال:25). وحين سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآيةكما في حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله تعالى عنها-قالت: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم إذا كثر الخبث)[i]. فما العلاج إذًا لظهور الخبائث والفتن والاضطراب وفقدان الأمن والاستقرار المتفرع عن قسوة القلوب؟ ففيما مضى قبل ختم النبوة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان الله (جلَّ شأنه) حين تبلغ أزمات العالم هذا المستوى أو قريب منه يبعث رسلا وأنبياء، ويؤتي بعضهم الحكم لإخراج الناس من مثل هذه الأحوال. أما وقد ختمت النبوة فقد بقي أمران: الأمر الأول: كتاب الله، وكتاب الله (جلَّ شأنه) نذير مبين، وبيَّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنا ذلك وهو يجود بنفسه الشريفة قائلًا: (.. تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتُم به. كتابَ اللهِ ..) [ii]. وكتاب الله ليُحدث هذا الأثر لابد من أمَّة شاهدة تحمله وتنطق به وتدعو الناس إلى التمسك به؛ لكي تعينها على الخروج من حالة قسوة القلوب، وهذه الأمَّة للأسف الشديد لم يعد لها وجود إلا في إطار الأمانيّ بعد أن تقطعت أوصالها وتفرقت كلمتها وصار كل فريق منها شبه أمَّة مستقلة عن سواها. إذًا لابد من البدء بالأمَّة، وإصلاح شأنها، وجمع كلمتها من جديد والتأليف بين قلوبها. والتأليف بين قلوبها أمر إلهيّ؛ لكي يتحقق لابد من جلاء أصحاب هذه القلوب لقلوبهم، والبعد تمامًا عن سائر المعاصي والذنوب والآثام التي تؤدي لا محالة إلى روافد ترفد بؤرة القسوة والظُلمة، وبذلك ينفرد كتاب الله (جلَّ شأنه) بكونه مصدر الهداية الكونيّ، والإصلاح العالميّ لا على مستوى أمَّتنا وحده بل للعالم كله. وكل العالم اليوم بحاجة إلى الكتاب الكريم، وكل العالم اليوم يبحث عن هذا الكتاب وهو بين يديه، لكنه لا يكاد يراه لكثرة الحُجُب التي أحاطت به وحجبته عن أعين وقلوب أولئك البشر. إنَّ نقطة البداية أن نقوم لله مثنى وفرادى ونتفكر في كل ما حدث: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ..﴾ (سبأ:46)، ونهرع إلى الكتاب الكريم القرآن العظيم، بحثًا عن علاج ووقاية وتحصين يزيل أو يضعف على الأقل من قسوة القلوب، ويجعل الطريق سالكة نحو رقتها وقنوتها وإخباتها؛ لتكون قادرة على الائتلاف مع النظائر والابتعاد عن الخوالف؛ وذلك لتلاوة هذا الكتاب حق التلاوة، والتدبر فيه، واكتشاف منهجه، وإعادة بناء علومه، وإعادة بناء المنظومة الإيمانيَّة والسلوكيَّة للإنسان المعاصر، وتمكينه من أن يصبح بدون غشاوة، ويفكر بدون حُجب، ويتدبر بدون عواقب. والله ولي التوفيق.