عندما اتخذت بعض الفنانات المصريات قرار ارتداء الحجاب في السنوات الأخيرة شن عليهن الإعلام حملة اتهام وتشكيك مع أنهن لم يمارسن سوى حريتهن الشخصية بالمفهوم الحقوقي المعاصر، ودائما في مصر تم منع 20 مذيعة بعد لبسهن غطاء الرأس من الظهور على التلفزيون المصري بل فرضت عليهن عقوبات إدارية بعد رفضهن خلع الحجاب بالترهيب والترغيب، وتظل الأزمة قائمة بين الحجاب وبين بعض المؤسسات والإدارات في دول عربية وإسلامية كتونس وتركيا وغيرهما. إن هذا التمييز والتضييق الذي يمارس ضد النساء ويحرمهن من حقهن في التعليم أو العمل بسبب لباسهن المحتشم المؤسس على خلفية دينية إسلامية في دول عربية وإسلامية يثير علامات استفهام واسعة ويجعل الملاحظ يستنتج أن هناك من يريد أن يقلب التاريخ والجغرافيا والحضارة والواقع وطبائع الأمور بجرة قلم أو بقرارات إدارية تعزل بموجبها النساء المحجبات عن مؤسسات المجتمع كما يعزل الوباء! وهو أمر شبه مستحيل في شعوب ظل فيها اللباس الساتر للجسد بالنسبة للرجل والمرأة معا إحدى ملامحها الواضحة كتعبير عن فلسفة حياة بمنظومة اجتماعية وأخلاقية ودينية متكاملة ومتجذرة قد تخف هذه الفلسفة أو تختفي جزئيا لكنها موجودة بالفعل وبالقوة أيضا بلغة الفلسفة. ولعل الغربيين الذين كتبوا عن سحر الشرق اعترفوا بهذه الخصوصيات الضاربة في أعماق الحضارة الشرقية بصفة عامة والإسلامية بصفة خاصة. وقد بدأت أزمة الحجاب مع بداية التغلغل الاستعماري في ديار الإسلام حيث قيل في حجاب المرأة المسلمة آنذاك أكثر مما قاله مالك في الخمر وتحمل تداعيات الانحطاط وأسبابه أيضا كشيوع الجهل والاستبداد السياسي وجمود فقهاء الإسلام ودفاعهم عن قيم التخلف خاصة في قضية المرأة، وأصبح رأس الحجاب مطلوبا وخاصة على يد رائدات الحركات النسائية العربية حيث كن يمزقنه في تظاهرات ومسيرات عامة في الشوارع. ولكن لم تفلح كل محاولات عصرنة المرأة المسلمة بتجريدها من لباسها المحتشم إلا مرحليا حيث عاد الحجاب مجددا نفسه مزهوا بشخصيات نسائية حرة ومتعلمة ومبدعة ومناضلة ومدافعة عن قضايا النساء معلنات أن الإسلام لا يحجب عقل المرأة أبدا، ولا يعزلها كما شاع لدى المسلمين في زمن الانهيار الحضاري الشامل. وفشلت علمانية تركيا في الالتحاق بعري أوروبا، ورغم محاصرة الحجاب رسميا، فإن المساندة الشعبية له جعلت 85% من نساء تركيا محجبات وهن على درجة عالية من العلم والكفاءة والعصرنة أيضا. وفي تركيا تنظم أرقى معارض الموضة في الحجاب ولوازمه وتنتج أجود أنواع الملابس الساترة للجسد النسائي وشكل هذا نقطة جذب بالنسبة لغير المحجبات. مما جعل حماة العلمانية الأتاتوركية هناك يتهمون الشركات المنتجة بالترويج للفكرة الإسلامية! هكذا نجد أن محنة الحجاب قد بدأت في عقر داره باسم حماية علمانية أو حداثة ضرورة تمارس الديكتاتورية وتناهض قيم الديمقراطية التي ليست سوى حكم الأغلبية مع ضمان حقوق الأقليات. وإذا كانت علمانية فرنسا العريقة قد ظلت منسجمة مع نفسها ومع أغلبيتها فإن وضع الأقليات المسلمة بدأ يطرح تحديات حقيقية على هذه العلمانية سواء من حيث تكاثر عددهم أو استفادتهم من مناخ الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية ونشاطاتهم الثقافية والسياسية وبدأ يسود التخوف من أن تصبح علمانية فرنسا بأغلبية مسلمة، واشتد هذا الهوس بعد أحداث 11 شتنبر وبداية الحملة على الإرهاب، بعد أن نفخت فيه لوبيات معروفة بعدائها للمهاجرين المسلمين. لقد ظلت فرنسا ذات الأغلبية المسيحية مترددة في كيفية حماية علمانيتها من الإسلام دون أن تسقط في خرق مبادئ حقوق الإنسان، لكن العلمانيات البوليسية في العالم الإسلامي ما فتئت تقدم نماذج حمائية تصلح للعولمة والاقتداء في زمن الحرب ضد الإرهاب. لقد أدلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأول تصريح عدائي له ضد الحجاب في قلب تونس حيث وصفه بالعدوانية. ففرنسا بحظرها للحجاب لن تفعل أكثر ما تفعله بعض الدول الإسلامية، وعليه فما الذي يضطر ها لمنع لمنع الحجاب كل تلك الحرية والامتيازات حتى غدا يغزو شوارع باريس عاصمة الموضة الغربية ورمز الاحتفاء بالجسد النسائي العاري الذي أصبح جزءا من الاقتصاد والسياسة والقيم المقدسة! إن لعنة الديكتاتورية تطارد المهاجرين في الغرب ولم يعد يشفع لهم حملهم لجنسية بلدان إقامتهم للتمتع بحقوق المواطنة كاملة، بل إن هناك رؤساء دول عربية ظلت تغيظهم الحرية التي يتمتع بها المهاجرون في الغرب بينما بعضهم سيستحق السجن في موطنه الأصلي بسبب أفكاره أو معارضته للحكم. والسياسة الدولية اليوم الغارقة في التحريض والابتزاز وجلب المصالح ولو على حساب الشرعية ومواثيق حقوق الإنسان قد تشكل مناخا مناسبا للإجهاز على حقوق الأقليات المسلمة في الغرب. وتظل تهمة إرهابي محتمل كفيلة لإعطاء مشروعية السحق والتهميش وربما الإبادة. فهل يعي المسلمون في الغرب تحدي المرحلة ويعيدوا النظر في طريقة اندماجهم لكي يخرجوا من الهوامش الضيقة التي يتحركون ويتصارعون داخلها باسم الدفاع عن الإسلام، كما أن نظرية الكفر ودار الإسلام بكل تداعياتها على الفكر والسلوك لن تسعفهم في الحفاظ على مكتسباتهم، ولعل الاندماج بمنظور المواطنة كواجبات وحقوق يخلق بينهم وبين العلمانية لغة حوار مشتركة تضمن لهم الاستقرار ومعه حرية الاعتقاد وحرية التدين. سعاد لعماري