(1) في مطلع هذا الأسبوع، حذر مرشد الجمهورية في إيران علي خامنئي من أن إبرام الاتفاق الإيراني مع الغرب حول مشروع إيران النووي لن يعني التخلي عن معاداة الولاياتالمتحدة. وقد جاء هذا الإعلان بعد ورود تصريحات لمسؤولين حكوميين بأن إبرام الاتفاق يعني فتح الباب لتعاون وثيق مع الغرب في مجالات واسعة، من أبرزها مكافحة الإرهاب. ولم يحدد المسؤول الإيراني إن كان حزب الله سيكون من بين المنظمات «الإرهابية» التي ستشملها هذه المكافحة، ولكن من الواضح أن رقصة التعري قد بدأت. (2) كثير من المعلقين الذين تناولوا الاتفاق الذي أبرم في ليلة قد تكون ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ركزوا على ما تجنيه إيران منه. ولم يلتفت أحد إلى أن لب المسألة هو جلب إيران إلى بيت الطاعة الغربي والقبول طوعاً بأن يكون سلوكها موضوع مراقبة دائمة، ومحل رضا غربي. وهذا ما حدث. فإيران اليوم مرضي عنها إلى حد ما- وأهم من ذلك، مجتهدة في تحقيق هذا الرضا، وتعتبره فتحاً عظيماً. (3) لا عبرة هنا بما يصدر من تصريحات نارية عن استمرار لعن إسرائيل والدعاء على أمريكا بالموت. فقد كان الإعلام المصري يردد كثيراً من الشعارات الناصرية أثناء وبعد اتفاقيات كامب دايفيد. ولكنا نعلم ماذا حدث بعد أن دخل الطرفان في سرير واحد، فزادت الحميمية، وتم إنجاب ذرية ترى اليوم في إسرائيل الوالد الحنون. وهكذا نشاهد بأم أعيننا إعلاماً ونخبة سياسية مصرية تشن على غزة حرباً أشرس من أي حرب شنتها إسرائيل في السابق. (4) الإشكالية ليست في الاتفاق ذاته، ولكن في الظروف التي أدت له. لبنان لم يكن في حاجة إلى اتفاق مع إسرائيل لتحرير أرضه، والهند وباكستان لم تكونا في حاجة إلى اتفاق نووي مع الغرب أو غيره. والسبب في الحالين أن هذه الدول لم ترتكب أخطاء مميتة عالجتها بأخطاء أفظع. مصر ورطت نفسها منذ بداية العهد الناصري في ثلاث صراعات: الأول مع الشعب المصري للحفاظ على حكم الفرد، والثاني مع المحيط العربي الذي سعت إلى إعادة تشكيله في صورتها، والثالث مع الغرب الذي ناهضته العداء منذ أيام السد العالي. وفي هذا الإطار، فإن حروبها مع إسرائيل كانت كارثية لأنها كلها تمت وظهرها إلى أكثر من حائط يوشك أن ينقض. (5) إيران اتجهت بنفس القدر إلى مواجهات طفولية متعددة الاتجاهات، بدأت باحتلال مقر السفارة الأمريكية في طهران، في مخالفة لكل الأعراف الدولية والإسلامية في احترام الرسل. ثم ثنت بفتح حروب مع رفقاء الثورة، قبل أن تشن حربها على قيادات الثورة نفسهم، بدءاً بأول رئيس وزراء، وأول رئيس جمهورية، ثم نائب المرشد وخليفته المنتظر، وأخيراً مع 70٪ من الإيرانيين من التيار الإصلاحي. وفي حمى تصدير الثورة دخلت إيران في مواجهات مع جيرانها وحروب مع العراق وأفغانستان. وحينما برز تيار بقيادة خاتمي ورفسنجاني يسعى للمصالحة مع الشعب الإيراني، شنت ضده عدة حروب، ما تزال قائمة. (6) وطبقاً للحديث الصحيح بأن «المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، فإن هذه الثورجية الصبيانية كان لا بد بأن تنتهي إلى استسلام كامل. كان هذا مصير هذه المراهقة في مصر الناصرية-الساداتية، وعراق صدام، وسوريا الأسدين، وسودان البشير وغيرها. فإطلاق شعارات لا معنى لها، والتصرف الأهوج في غير مقامه، وافتعال المعارك في غير وقتها وظروفها، لا بد أن يؤدي إلى هزيمة. وعدم الاعتراف بالهزيمة وعدم معالجة أسبابها يؤدي بالضرورة إلى التخبط المودي إلى التهلكة. (7) في الحالين، لا يمكن لوم «المعتدلين» وحدهم. ففي إيران، بدأت التراجعات الفضائحية عبر صفقة السلاح المشؤومة مع إسرائيل في عام 1985، وبمباركة الخميني نفسه. وفي مصر، بدأ الأمر مع القبول بقرار مجلس الأمن 242 ثم مبادرة روجرز. وهي على كل حال نتيجة منطقية لتصرفات كارثية غاب عنها العقل والخلق معاً، وبالطبع الدين. (8) قد كررنا أكثر من مرة أن البدائل التي تواجهها الشعوب المتحضرة لا تكون الاستسلام للعدو أو الهوس الانتحاري. ولن يتحقق نصر يوماً على يد فرد يدعي أنه هو وحده البطل، وأن الأمة عبيد يسبحون بحمده. بل لا بد قبل كل شيء من احترام كرامة الشعوب وعزتها، ثم فهم أوضاع الكون من حولنا. فالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهو يعلم أنه مؤيد من السماء، لم يكن يدخل في مغامرات هوجاء لا يحسب حسابها، ولا يدخل معركة لم يعد لها كل عدة، بل كان يتعامل بحكمة مع واقعه. فكيف بدون كيشوتات آخر الزمان؟ (9) لقد أصبحنا في عصر افتقد فيه الشعور بالمسؤولية، وقبل ذلك الحس الأخلاقي. فالكل يتحدث عن محاربة الاستكبار، ثم يمارس أسوأ أنواع الاستكبار، وإنما على الضعفاء من أبناء شعبه. أما أمام كل جبار عنيد، فهو خوار رعديد، ينفذ كل ما يطلب منه. لقد قضى ثورجية إيران اثني عشر عاماً وهم يتوسلون رضا الغرب، ويقدمون كل ما يطلب منهم، وأكثر لتحقيق هذه الغاية. وليتهم قضوا معشار ذلك في استرضاء الشعب الإيراني، ومعاونة إخوتهم في الدين، وجيرانهم في المنطقة. وها نحن نشهد في منطقتنا «الهرولة» لإرضاء أمريكا، والتفاخر بأي محظياتها أحب إليها وأقرب. ولله الأمر من قبل ومن بعد.