إن من واجب أي مجتمع، كي يحقق نهوضة وتقدمه، أن يحافظ على قيمه، فلا يمكن أن تحقق التنمية في أي مجال بمعزل عن القيم الثقافية التي هي شرط أساسي لكل أشكال التنمية، ولهذا فإن التنصل من هذه القيم هو هدم للمقومات وللهوية... فلكل مجتمع خصوصياته، والقيم الدينية من أبرز هذه الخصوصيات. وظاهرة ارتداد الأطفال والشباب عن التدين أصبحت بارزة بشكل ملفت، ومع ذلك لم تلق ما تستحقه من الدراسة والتحليل للتعرف على الأسباب الكامنة وراءها. ولعل الكتابات الحالية حول هذه الظاهرة بقيت وفية لمنهجها النقدي، بيد أن الأمر يستلزم إحاطة أوسع بأبعاد هذه الظاهرة بقصد إصلاح واستثمار أطفالنا وشبابنا نحو التدين. وبما أن المدرسة هي المؤسسة الاجتماعية القيمة على التربية ونقل ثقافة المجتمع وتوفير الظروف المناسبة للنمو جسميا وعقليا وانفعاليا واجتماعيا. فإن دورها التعليمي والتربوي والرقابي من شأنه أن يكون لدى المتعلمين المناعة والحصانة لما يمكن أن تتعرض له القيم والمعايير من هزات، فهل المدرسة حاليا قادرة على بلورة ثقافة وتنشئة دينية في ظل التحولات الخطيرة التي مست مؤسسات المجتمع؟ ومن هنا يأتي هذا المقال الخاص عن دور المدرسة في تنشئة السلوك الديني لدى الطفل، كدراسة ميدانية أجريناها على عينة غير تمثيلية من مجتمع بحث محدود متمثل في مدرسة ابتدائية وهذه الدراسة هي قراءة سيكوسوسيولوجية للواقع التربوي والتعليمي الذي تعيشه مدرستنا، ومدى التأثير الذي تمارسه على المتعلمين في تكوين اتجاهات وسلوكات دينية. أهمية دراسة تنشئة السلوك الديني لدى الطفل إن طرحنا للتنشئة الدينية يأتي من اعتبارها موضوعا أساسيا من موضوعات علم الاجتماع، إذ أن جميع المجتمعات الإنسانية تعتمد في تماسكها وتطورها على ما يتوفر لديها من فهم مشترك للعادات والتقاليد والقيم، وخصوصا ما يرتبط بالقيم الدينية السائدة التي يدين بها المجتمع... فإذا كانت غاية الدين، أي دين، توجيه سلوك الناس توجيها معينا، فتحقيق هذا الهدف يتطلب توظيف كل ماله صلة بتوجيه السلوك أو تغييره أو تعديله، ومن ذلك العقائد الدينية وما يتفرع عنها من و اجبات وشعائر وطقوس. وقد رأى فيبر في دراسته للأنماط المثالية التي تحدد طبيعة تصورات الإنسان وإدراكاته ومواقفه السلوكية في المجتمع (أنه على رأس هذه الأنماط المحددة للسلوك الموجهة للفعل توجد القيم الأخلاقية والدينية) (1). ومن ثم يعتبر الدين من الظواهر البارزة في المجتمع التي لها تأثير هام في الحياة الاجتماعية فبقدر ما يحدث عند الفرد حوافز النهضة لترقية حياته (فإنه يقيم جماعة متينة البناء، قوامها الإخاء والاستواء والتضامن والولاء، ثم يحقق صلاح ذات البين، في المجتمع بإقامة موازين العدالة والأخلاق وتأسيس ضوابط السلوك الاجتماعي كقاعدة صلبة تضمن حسن الالتزام) (2) وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون في المقدمة بكون الديانة (تؤلف القلوب وتوجهها إلى وجهة واحدة وتذهب بالتنافس والتحاسد وتؤدي إلى اتفاق الأهواء وتحمل على التعاون والتعاضد) (3). ولقد بين مالينوفسكي في هذا الصدد الفرق بين الغرض من الدين ووظيفة الدين، بقوله بأن الغرض من الدين هو عبادة الإله، بينما إشباع الحاجات الإنسانية هو وظيفة الدين، ويؤكد دوركايم في هذا الإطار على المراقبة الاجتماعية للأفراد باعتبارها أمرا ضروريا لا محيد عنه حتى لا ينهار المجتمع جراء وفرة الحرية، ومن ثم فالدين يساعد على وعي الأفراد بأنفسهم كمجتمع أخلاق تسوده قيم عامة، فهو يضفي القدسية على معايير وقيم المجتمع (فليس هناك مجتمع مجرد من جسم القوانين والممنوعات والمقدسات ُّفقَُِّّ، إن هذه الأشياء الأخلاقية هي التي تكون فيه الجوهر، لأن التفوق الأخلاقي في المجتمع على الفرد هو الذي يقدم خاصة كاملة سليمة ومقبولة) (4). ومن ثمة فالخروج عن هذه القيم والمعايير الجمعية يطلق عليه دوركايم فقدان المعايير ذلك المفهوم الذي ظهر بوضوح في مؤلفه عن الانتحار. (يتبع) 1 ماكس فيبر: الأخلاق البرستانتينية وروح الرأسمالية عند الدكتور محمد عابد الجابري وآخرون دروس الفلسفة لطلاب الباكلوريا المغربية، دار النشر المغربية، الدارالبيضاء، ,1971 ص .345 2 د. حسن الترابي، الإيمان وأثره في حياة الإنسان، دار القلم، الكويت الطبعة الرابعة ,1983 ص: .181 3 عبد الرحمان بن خلدون المقدمة دار الكتب الشعبية، بيروت، الطبعة الثانية ,1975 ص ,157 4 عبد الكريم غريب، سوسيولوجيا التربية منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى ,2000 ص . بقلم: ذ.إدريس بن العربي باحث في علم الاجتماع