صدق أو لا تصدق، فرنسا الدولة العلمانية العتيدة تنظم حملة لمكافحة أضرار الخمور والمخدرات، وحكومة المغرب الإسلامية لا تفعل ذلك. وأدهى من ذلك وأمر أنها بإعراضها عن لوبي الخمور وتقديم الرخص للأسواق الكبرى والصغرى، تكون مخالفة للإسلام الذي ينص دستورها على أنه دينها الرسمي، ومشجعة لتجارة أم الخبائث. وينكشف الأمر كاملا تحت قبة مجلس النواب حيث ما زال يقبع نص مقترح قانون تقدم به الفريق الاستقلالي منذ يونيو 1998بل منذ 1985، يرمي إلى منع المشروبات الكحولية أو الممزوجة بالكحول والمعاقبة على صنعها أو تقطيرها ونقلها وبيعها واستيرادها وتناولها والدعاية لها. ورغم إلحاح حزب العدالة والتنمية في طلب إدراج المقترح في جلسات المجلس، إلا أن رئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان لم يستجب للطلب المتكرر. فإذا أضفنا لهذا استعداد الحكومة لخوصصة شركة التبغ بعد إفلاسها وإدراج ذلك في القانون المالي الحالي انفضح أمر الحكومة وموقفها من الشريعة وصحة المواطنين. في فرنسا العلمانية قد لا يصدق كثير منا هذا الأمر: فرنسا تنظم حملة متواصلة ضد الخمور والمخدرات، أجل، هذا أمر واقع ومشهود، الحكومة الفرنسية تكافح الخمور والمخدرات، وذلك على أعلى المستويات بعد أن أنشأت للقيام بهذه المهمة لجنة وزارية مختلطة تشمل 17 وزارة، وجعلتها تحت الآمر المباشر للوزير الأول، وأطلقت عليها اسم اللجنة الوزارية المختلطة لمكافحة المخدرات والإدمان في سنة 1982. مهمة هذه اللجنة كما يدل عليها اسمها المحكم هو الوقاية ضد آفات الخمور والمخدرات، والرعاية الصحية والاجتماعية لضحايا الإدمان، وإنشاء مراكز وبرامج لتكوينهم، وإعادة تربيتهم وإدماجهم، والتواصل والبحث مع المعنيين بالأمر. وتبادل المعارف والخبرات الدولية في هذا المجال وتعتبر هذه اللجنة القلب النابض والحي للحملة الفرنسية الحكومية ضد الإدمان والخمور، واللجنة المذكورة لها امتدادات وطنية تصل إلى أصغر جماعة محلية ولها ميزانية معتبرة وصلت إلى 608 مليون فرنك فرنسي وهي ميرانية تعتبرها اللجنة غير كافية لإنها تساوي الميرانية التي تخصصها سويسرا للأمر نفسه وهي التي لا يزيد سكانها على 6 ملايين نسمة في حين أن فرنسا تضاعفها خمس مرات أو أكثر. ظهر أمر اللجنة واشتهر عندما تولت رئاستها السيدة مايستراكسي سنة 1998، وتم توسيع مجال اشتغالها لتشمل الخمر والكحول والتبغ والأدوية. وتذكر هذه المرأة في حوار لها ظهر في لوموند أن الجانب المتعلق بالخمر في قانون "إيفان" كان قد أفرغ من محتواه قبل أن تتولى هي الرئاسة. وذلك كما تقول بسبب نشاط اللوبي المستفيد من تجارة الخمور وارتباطاته البرلمانية. وكان تقرير سابق للبرقفيسور (روك) أول من قارن بين خطورة المواد المنشطة الممنوعة وغير الممنوعة بما فيها الخمر،. وقامت المرأة بدراسات مختبرية طبية واجتماعية بالتعاون مع فاعلين وشركاء آخرين طيلة سنة 1998، ليتبين لهم أن الخمر لا يقل خطورة عن المخدرات الممنوعة. ومنذ ذلك الحين قدمت اللجنة مخططها الثلاثي 1999/2002، لكن الأعمال لم تتقدم على عهد جوسبان الاشتراكي السابق، حتى اقتنع وزير الفلاحة جان غلافاني بالمخطط واستطاع إقناع الوزير الأول به. والمدهش أن المرأة المذكورة دعت صناع الخمور والكحول إلى لقاءات وندوات ومؤتمرات لتحملهم المسؤولية في المصائب والجرائم التي تقع بسبب الخمر والكحول، ورغم رحيل نيكول مايستراكسي من رئاسة اللجنة، وتعويضها ب (ديد ييه جايل) فما تزال الحملة مستمرة. الأرقام والإحصائيات المتعلقة بالخمور في فرنسا مذهلة، فالخمر يقتل كل عام 45000 فرنسي. وهو السبب الأول في حوادث السير، ففي دراسة امتدت بين عامي 1995 و 1999 شملت أكثر من 500000حادثة سير. ظهر بما لا يدع مجالا للشك أن القاتل الحقيقي هو الخمر وأن القتلة السفاكين هم مروجو الخمور وصناعها والمشتركون فيها. ثلث الحوادث تجاوز السائقون فيها الحد المنصوص عليه في تناول الخمر. وفي الحوادث الليلية كان الخمر سبب الثلثين فيها. وفي نهاية الأسبوع تصل نسبة مسؤولية الخمور إلى 67% من مجموع الحوادث. 40% من هذه الحوادث لم يقع فيها اصطدام ولا تزاحم بين سيارتين، وإنما السائق وحده بطل الكارثة والسبب هو الخمر. 94% من السائقين المخمورين المر تكبين للحوادث ذكور. الحملة الحكومية الفرنسية ركزت جهدها على الشباب مت بين 15 و 25 سنة. واستعملت جميع الوسائل المكتوبة والسمعية والبصرية والإلكترونية والجمعوية والرسائل الشخصية وكل ما خطر على بالها. ساق التقرير الفرنسي أرقاما ومعطيات عن استهلاك الخمور والمخدرات والتبغ في أوساط الشباب وهذه بعض منها: سن 17 عاما تذوق نصف المراهقين الأنواع الثلاثة المذكورة وهي الكحول والتبغ والمخدرات. واحد من كل خمسة صرح أنه تناول المخدرات على الأقل عشر مرات في السنة. ثلث المراهقين (ما بين 15 و19 سنة) اعترف أنه تناول الخمر إلى درجة فقدان الوعي مرة في السنة على الأقل. 7% من الذكور البالغين 19سنة تناول مخدرات قوية. وكانت الحملة الفرنسية ضد الآفات المذكورة قد انطلقت في الثلاثاء 19 يونيو 2001، وساهمت فيها الصحف الفرنسية المشهورة لوموند وليبراسيون ولوفيغارو، ولوباريزيان ولاكروا، ولومانيتيه وليكيب، وليكيب ماغازين وتيليزما وليكسبريس ولونوفيل أبسرفاتور، ولوفيغارو ماغازين ولوبوان وماريان وغيرها. وتم الأمر نفسه في الصحف والمجلات النسائية. في دولة المغرب الإسلامية: في الوقت الذي تقوم فيه حكومة فرنسا العلمانية بكل هذه الجهود لإنقاذ شبابها وصحة مواطنيها من آفات الخمور والمخدرات والتبغ بعد أن اقتنعت بأضراره التي لا تعد ولا تحصى، يشهد المغرب، البلد الإسلامي دستوريا وتاريخيا وواقعيا إعراض المؤسسات المسؤولة عن هذه الآفة، وإغماض عينها عن استفحال ترويج الخمور وانتشارها بين كل الفئات الاجتماعية، فلم يعد الأمر يقتصر على أسواق ماكرو ومرجان، بل انضاف إليهما العام الماضي السوق الإسباني الجديد (كاش ديبلو) هذا دون الحديث عن عشرات المئات من الحانات والفنادق والمتاجر والنوادي الرياضية التي تروج الخمر وتقدمه للمغاربة المسلمين بترخيص من الجهات الرسمية. يذكر أن معضلة بيع الخمر للمسلمين إذا كانت قد حسمت على المستوى الديني، فإنها لازالت تثير نقاشا على المستوى القانوني حيث تغيرت مواقف المشرع المغربي كما أكد بعض الباحثين حسب الظروف ويميز الدارسون بين ثلاث مراحل كبيرة مرحلة ما قبل الاستعمار، حيث كان التحريم محترما إلى أن جاء الاستعمار الذي شجع على إنتاج الخمور وتصديرها إلى السوق الفرنسية، وقد بدأ المشرع في مرحلة الاستعمار في تقنين هذا المجال بضغط من المقاومين، فجاء القرار الوزاري الصادر سنة 1937 الذي فرض احترام الدين الإسلامي ومشاعر المسلمين فكان الترخيص لبيع الخمور لا يعطى للمسلمين كان خاصا بغير المسلمين من اليهود والنصارى، وحددت عقوبات زجرية لمن يبيعون الخمر للمسلمين، ولكن في المرحلة الثالثة التي نعيشها الآن (بعد الاستقلال) سمح المشرع لأول مرة للمسلمين ببيع الخمر! حيث صدر قرار من مدير الديوان الملكي سنة 1967 فصله الأول يعطي الإمكانية لأي كان مسلما أو غير مسلم بالحصول على ترخيص لبيع المشروبات الكحولية، والتناقض الذي يسجله الباحثون هو احتفاظ المادة بنفس البند المنصوص عليه في قانون 1937 المتعلق بمنع ممتلكي محلات بيع الخمور من بيعها أو إعطائها مجانا للمغاربة المسلمين رغم أن أغلبية المستهلكين من المغاربة المسلمين وهذا الغموض جعل المحاكم المغربية تطبق قانونا ليس موجها للمغاربة المسلمين والتناقض الآخر هو أن الدولة هي المنتج الرئيسي لأم الخبائث مما يجعلها مستفيدة من الغموض! وكان فريق حزب العدالة والتنمية بمجلس النواب قد أثار هذا الموضوع غير مرة عن طريق أسئلة كتابية وشفوية موجهة إلى وزير الداخلية وإلى رئيس لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، خلال الولاية التشريعية الماضية، أسئلة طلب فيها الفريق إدراج مقترح القانون الرامي إلى منع المشروبات الكحولية، بناء على مقرح قانون سبق أن قدمه الفريق الاستقلالي منذ 17 يونيو 1998، «إلا أن الملاحظ يقول فريق العدالة والتنمية أن هذا المقترح تم تأجيل البث فيه بعد دفع الحكومة بالفصل 51 من الدستور» ثم التمس الفريق من رئيس لجنة العدل والتشريع يوم 20/11/2000 «اتخاذ الإجراءات اللازمة قصد إدراجه في أقرب جلسة مذكرة بمقتضيات المادة 881 من النظام الداخلي التي تحدد آجلا أقصاه ثلاثة أشهر من تاريخ الإحالة للبث في مشاريع ومقترحات القوانين»، كما سبق للفريق نفسه أن قدم نفس الطلب يوم 1 نونبر 1999، دون أن يجد استجابة لطلباته المتكررة، وفي السياق ذاته وجهت أسئلة كتابية من الفريق حول انتشار بيع الخمور بعدة مدن وبوادي بالمغرب. كما أن حركة التوحيد والإصلاح نظمت حملة وطنية ضد آفة الخمر خلال السنة 2001 عبر عدة محطات وبوسائل مختلفة، كما وجهت نداء إلى الشعب المغربي يدعوه فيه إلى مقاطعة المحلات التي تبيع الخمر ومما جاء فيه: «ولا يخفي عليكم أن التعامل مع هذه المحلات وشراء سلعها واستهلاك منتجاتها (من غير الخمر) هو دعم لها وعون وتشجيع لأصحابها، والله تعالى يقول: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، وفي الحديث الشريف: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». فكيف إذا كنا ندعم المنكر ونعين أهله بأن نصبح من زبائنهم ومن ممولي تجارتهم». وختم البيان بالقول (إننا ندعوكم إلى مقاطعة المحلات التي تبيع وتقدم الخمور، من دكاكين ومتاجر ومطاعم ومقاهي وأسواق ممتازة وغيرها وخاصة حينما يكون لنا بديل عنها وعن خدماتها). يذكر أن الحاج ميلود الشعبي، النائب الإستقلالي كان من أوائل من حرك هذا الملف بالبرلمان منذ سنوات خلت، وأعرب عن استعداده لإعادة تحريكه من جديد في الولاية الحالية. وجاء ذلك في استجواب خص به جريدة "التجديد" بعد حصوله على الرقم القياسي في الانتخابات التشريعية ليوم 27 شتنبر الماضي. وقال «قدمت ملتمس منع بيع الخمور من قبل في 1985، وسأعيد الكرة مرة ثانية في البرلمان الجديد.. ولو نجحت الحكومة في منع الخمور فذلك إنجاز عظيم لها، ومطلبي الوحيد هو منع الخمور في المغرب الإسلامي فلا أريد أن أصبح وزيرا أو سفيرا». تصريح أثار قلق لوبي الخمور بالمغرب وخارج المغرب. فهل ستشهد الولاية التشريعية الحالية إخراج المقترح من الثلاجة وإدراجه في جلسات المناقشة ؟ وهل سيعيد الحاج ميلود الشعبي الكرة ثانية تحت قبة مجلس النواب؟ وهل ستعيد الحكومة رفع فيتو الفصل51 من الدستور؟ وإذا لم تفعل ذلك، فهل بإمكانها تنظيم حملة شبيهة بالحملة الفرنسية تشرك فيها الهيئات المعنية والفاعلين الاجتماعيين والثقافيين والدينيين؟ أسئلة ستبقى منتصبة حتى تجد أجوبتها في الشهور القليلة القادمة؟ حسن السرات