لم يكن لأحد أن يتوقع، ولا حتى في أسوأ الكوابيس، أن تنتهي حركة الثورة والتغيير العربية إلى ما انتهت إليه. في كل دول الثورات العربية، تحولت وعود الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية إلى حرب أهلية باهظة التكاليف. الاستثناء التونسي، الذي يبدو وكأنه خرج بالبلاد بأقل الخسائر، هو استثناء ملتبس إلى حد كبير، ويصعب حتى في أكثر التوقعات تفاؤلاً أن يوفر «نوعاً مثالياً»، يمكن استلهامه في الشقيقات العربيات الأخريات. فلماذا لا يقدر عرب سورياوالعراق، ليبيا وتونس، ومصر، عظم عواقب مطالبتهم بدولة العدل والحرية، وتحديهم لأنظمة الاستبداد التي قبضت على مقاليد السياسة والثروة طويلاً، لماذا لا يرون الواقع كما هو: أن هذه أنظمة لا تقهر وأن قدرهم التعايش معها، وضع حد لخسائر الناس والأوطان، والقبول بعودة السلم والأمن والاستقرار، حتى في ظل سيطرة أقليات الطبقات الحاكمة. أثارت رياح الثورة العربية مخاوف وردود فعل هائلة في دول الثورات وفي المجال العربية ككل، مخاوف وردود فعل لا تقل في حجمها وفي مرتكزات قوتها عن الحركة الشعبية الهائلة التي شهدتها المدن العربية في 2011. خرجت الشعوب إلى الشوارع بعشرات الملايين، تحدوها آمال كبرى في عالم جديد، عالم يعيد بناء العلاقة بين الدولة وشعبها، ويضع العرب مرة أخرى على مسرح التاريخ. ولكن أنظمة الحكم والدولة التي حملتها وعود الثورة مثلت خطراً وجودياً على قطاعات عربية بالغة القوة والنفوذ: أقليات من رجال الأعمال، سيطرت منذ عقود، في تحالف وثيق مع الطبقات الحاكمة وشركات ومصالح دولية، على مقدرات البلاد ومصادر الثروة؛ مؤسسات عسكرية تخلت منذ زمن عن دورها الأساسي في حماية البلاد والشعب، وتحولت إلى شريك رئيسي في الحكم والثروة؛ قطاعات اجتماعية لا يستهان بحجمها، ارتضت علاقة الاستعباد واعتادت عليها؛ وسلطات عربية خشيت من أن تطالها رياح الثورة والتغيير وقررت المبادرة إلى مواجهة المخاطر التي بدأت في الاندلاع من العواصم العربية العتيقة. الحقيقة، إذن، أن الأنظمة القديمة لم تكن بلا أنصار على استعداد للدفاع عنها، وقواعد شعبية تتعاطف معها فعلاً، وحلفاء عرب يملكون من الثروة والنفوذ السياسي ما يمكنهم توفير الدعم اللازم لمحاولة قواها إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. تندلع الثورات بمبادرة من شرائح أكثر وعياً واستعداداً للتضحية وأكثر حساسية للسياق التاريخي، تلتف حولها قطاعات كبيرة من الشعب، وليس كل الشعب بالضرورة. ليس ثمة ثورة في التاريخ الحديث عبرت عن الأغلبيات الساحقة من الشعوب. بمعنى، أن الثورات تلد وهي تحتضن في داخلها حالة من الانقسام، التي تأخذ أحياناً سمة طبقية، وأحياناً سمة أيديولوجية، وفي أحيان أخرى سمة سياسية بحتة. ولكن الانقسام في المجتمعات العربية، الذي يعود في جذوره إلى انهيار الاجماع في المجال العربي الإسلامي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان أعمق بكثير، وأكثر فداحة مما عرفته أية ثورة شعبية ديمقراطية في العالم خلال نصف القرن الماضي. لم يفز د. محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية إلا بواحد وخمسين بالمئة فقط من الأصوات، في مواجهة منافس لم يعبر عن النظام القديم وحسب، بل وكان أحد أبرز قياداته؛ ولم تلبث قوات الجيش أن أطاحت بالرئيس المنتخب، وأعادت الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه في عهد مبارك. وبعد فوز حرج لحركة النهضة وحليفيها في الانتخابات التأسيسية التونسية، عاد التونسيون في انتخابات ظللها القلق وفقدان الصبر وأعطوا أغلبية أصواتهم لأحزاب أقرب إلى رؤية النظام السابق منها إلى الثورة وطموحاتها. وبالرغم من أن الثوار الليبيين قضوا على رأس النظام السابق كلية، فسرعان ما وجدوا أنفسهم في مواجهة فئة لا تقل في مرضها بجنون العظمة، والرغبة الطاغية للسيطرة على مقدرات البلاد. لم يستطع نظام الأسد، بكل ما استخدمه من قوة وحشية عارية، القضاء على ثورة الشعب السوري، ولكن النظام كان لديه من الولاء الطائفي والدعم الخارجي ما يكفي لمنع الثورة من الانتصار. ولم يكن دور العامل الطائفي أقل أهمية في العراق، حيث لم تنجح انتفاضة المحافظات الخمس سوى في تغيير حكومة المالكي والإتيان بحكومة لا تقل طائفية. أما في اليمن، فسرعان ما عاد نظام صالح من جديد، مرتكزاً إلى تحالف طائفي وقوات الجيش. في أحد أبلغ تجليات الانقسام العربي، تحول الصراع على الدولة والحكم إلى معركة وجود وفناء؛ وانحدرت دول الثورة العربية، الواحدة منها تلو الأخرى، إلى هوة الحرب الأهلية. أطلقت المدافع، كما في ليبيا وسورياوالعراق واليمن، أو لم تطلق بدوي هادر، كما في مصر، كل دول الثورة العربية اليوم هي في حالة حرب أهلية؛ حرب تدمر فيها مقدرات البلاد بصورة منهجية، وتستنزف فيها أرصدتها المالية، ويقتل شعبها في ساحات الحرب، أو في مراكز الاعتقال والتعذيب، بعشرات أو مئات الألوف، وتهجر ملايين أخرى داخل البلاد أو خارجها. في صورة من الصور، ليس ثمة جديد في هذه العاصفة من الموت والدمار؛ فمنذ الحرب الأولى وعواصف الموت والدمار لا تتوقف عن زياراتها الدورية لبلدان المشرق، مرة باسم حروب عالمية كبرى، ومرة باسم حروب التحرير الوطني، ومرات باسم معارك الداخل. ولكن الحقيقة أن المشرق العربي لم يعرف منذ مئة عام هذه المعدلات من الموت والتدمير المنهجي والاحتراب الداخلي. وهذا ما يؤسس لوجاهة دعوات المصالحة، دعوات تدارك ما يمكن تداركه من مقدرات الدولة، وحقن دماء الشعوب، ووضع حد للنزيف المادي والإنساني، الذي لا تبدو له من نهاية. ليبيا، مثلاً، بلد بالغ الثروة والإمكانيات النفطية والجغرافية، وبإمكان الليبيين بمجرد القبول بقيادة مهووس آخر مثل حفتر، استعادة أمنهم وسلامتهم، والبداية من جديد، حتى إن تصرف حفتر وكأنه الزعيم الملهم الوحيد، وأسس نظاماً يتوزع فيه أبناؤه وأقرابه وأدواته مراكز الحكم والثروة. وبإمكان السوريين قبول تسوية مع نظام الأسد، حتى وإن استمر الحكم يدار من قبل مجموعة من الضباط والأعوان العلويين، واقتصاد البلاد تتصرف فيه مجموعة صغيرة أخرى من العائلات، والانتخابات البرلمانية تأتي بالمصفقين للرئيس القائد، ابن الرئيس القائد. أليس من الأفضل للعراقيين، والعراق لا يقل ثراء ومقدرات نفطية حتى عن السعودية نفسها، القبول بنظام طائفي، يبني دولة حصرية طائفية، وتقوده حفنة من الجهلة بتاريخ العراق وتوازناته، من البقاء في ظل حالة الانقسام وحروب الميليشيات وسيطرة دولة الخلافة على أطراف البلاد؟ هيمنة إيران وعصابات الميليشيات الشيعية، في النهاية، لن تكون أسوأ من هيمنة ميليشيات داعش. ولماذا لا يقبل اليمنيون برئاسة أحمد بن عبدالله صالح وسيطرة الميليشيات الحوثية؟ ألم تكن الأوضاع في اليمن هي دوماً هكذا: مجموعة صغيرة تحكم وتنهب، وأغلبية تدبر معاشها بصورة أو أخرى؟ بدلاً من حرب لا يبدو لها من أفق قريب، يمكن لليمنيين على الأقل أن يأمنوا على أنفسهم وحرماتهم. بكلمة أخرى، يمكن للعرب أن يروا في مصر بأعينهم، نموذجاً حياً لما يمكن أن يكون عليه مستقبلهم، إن ارتضوا اختصار طريق الحروب الأهلية، والقبول بمصالحة ما مع قوى الثورة المضادة والنظام القديم: عودة طبقة ضباط الجيش للسيطرة على الدولة، ولعب دور القوة الرئيسية في المجالين الاقتصادي والتجاري؛ فتح السجون والمعتقلات على مصراعيها وعودة أجهزة الأمن إلى دورها القيادي للحياة السياسية؛ إخراس الأصوات المعارضة بوسيلة أو أخرى، وعودة وسائل الإعلام إلى أحضان السلطة وأجهزة الأمن؛ تزييف الانتخابات بما يليق بجمهورية عربية؛ والتعاون الوثيق مع الدولة العبرية لما فيه مصلحة السلم الإقليمي. هذا ما ستقود إليه المصالحات، بلا أوهام ولا خداع للنفس، والخيار الآن لمن نهض من الشعوب: العودة إلى النظام القديم، أو المضي في هذا النضال الشاق، مهما بلغت وطأته من ثقل.