أسئلة عديدة أثارها الرئيس الفلسطيني محمود عباس عندما طلب من مؤتمر القمة العربية السادسة والعشرين الذي انهى أعماله في القاهرة يوم الأحد الماضي "تدخلا عربيا" من أجل إنهاء "معاناة الاعتداء على الشرعية" الفلسطينية، كما أكد للجنة المركزية لحركة فتح برام الله الأربعاء الماضي، لكن إحياء قمة القاهرة العربية للخطاب القومي العربي يثير أسئلة أكثر كونه أفرغ مفهوم "الأمن القومي العربي" من مضمونه الفلسطيني. وأول الأسئلة التي يثيرها طلب عباس ب"تدخل عربي" هو لماذا لم يطالب قمة القاهرة التدخل لإنهاء "معاناة" عرب فلسطين من احتلال وطنهم منذ عام 1948، كون الاختلاف على كيفية التحرر من هذا الاحتلال هو السبب الرئيسي في الانقسام الفلسطيني الراهن. وثاني الأسئلة هو لماذا لم يطالب الرئيس عباس قمة القاهرة ب"حماية عربية" للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وهو الذي يكرر المطالبة بحماية دولية له، وقد وفرت له "عاصفة الحزم" على اليمن فرصة سانحة لذلك بعد أن أثبت العرب أنهم يملكون الإرادة السياسية والقدرات العسكرية والمالية لتوفير مثل هذه الحماية إن عزموا، أو في الأقل ليهددوا بذلك كرادع يجعل دولة الاحتلال الإسرائيلي تفكر مليا قبل ان تكرر عدوانها العسكري عليهم. وثالث الأسئلة التي يثيرها طلب عباس يتعلق ب"استقلالية القرار الفلسطيني" الذي طالما رفعته منظمة التحرير الفلسطينية في وجه تدخل الدول العربية في الشأن الفلسطيني، ورابعها يتعلق بحدود أي تدخل كهذا بحيث لا تتجاوز مبدأ عدم التدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي، وخامسها يتعلق ب"الشرعية" الفلسطينية الذي طلب التدخل العربي من أجل حمايتها وهل يقصد بها "شرعية المقاومة" أم "شرعية الانتخابات" في ظل الاحتلال أم الشرعية المستمدة من اعتراف دولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي بمنظمة التحرير على أساس اتفاقيات أوسلو، علما بان كل المؤسسات الفلسطينية الراهنة فاقدة للشرعية بعد انتهاء صلاحياتها من رئاسة المنظمة ولجنتها التنفيذية ومجلسها الوطني و"السلطة الفلسطينية" ورئاستها وحكومتها ومجلسها التشريعي. صحيح أن فريق عباس الرئاسي نفى أن يكون المقصود بطلبه أي تدخل "عسكري" على نمط "تدخل" الدول العربية العشر في اليمن الذي منحته قمة القاهرة شرعية جامعة الدول العربية، غير أن طبيعة التدخل الذي طالب به الرئيس الفلسطيني ليست واضحة، وإذا كان "التوسط" العربي في إنهاء الانقسام الفلسطيني هو المقصود بطلبه فإن القاهرة ومكة المكرمة والدوحة وغيرها تشهد بأن العرب لم يبخلوا بهذا النوع من التدخل. لكن طلب التدخل الفلسطيني عندما يأتي في سياق نظيره العربي الراهن في اليمن، الذي حولته قمة القاهرة إلى تشريع للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في الجامعة العربية في سابقة تتعارض تماما مع ما نص عليه ميثاقها، وهو ما منحه عباس في كلمته أمام القمة "تأييدنا الكامل"، لا يترك مجالا كبيرا لعدم الشك في ان المقصود بطلب عباس هو استقواؤه كطرف في الانقسام الفلسطيني بالدول العربية على الطرف الآخر لحل أزمة داخلية بين استراتيجية المقاومة وبين استراتيجية التفاوض السلمي استعصى حلها حتى الآن على الحوار الوطني وعلى الوساطة العربية على حد سواء. والمفارقة أن طلب عباس هذا قد أثار جدلا فلسطينيا ساخنا مع أن البيان الختامي لقمة القاهرة قد خلا من أي إشارة إلى ألى أي استجابة له. ولم يكن هذا طلب عباس الوحيد من القمة فقد "تمنّى" عليها أن "تتبنى … قرارا برفض وتجريم" مخططات دولة الاحتلال "لإقامة دولة في قطاع غزة وحكم ذاتي في الضفة الغربية يستثني القدس" ولم يصدر عن القمة أي قرار كهذا، و"ضم صوته" إلى "الأشقاء القادة المطالبين بتفعيل الاتفاقيات والمعاهدات المتعلقة بالدفاع العربي المشترك" لكن "الأشقاء القادة" في بيانهم الختامي اعتمدوا "تفعيلها" في مواجهة الإرهاب وإيران وتجاهلوا أن تلك الاتفاقيات والمعاهدات كانت قد أبرمت في الأصل في مواجهة الاحتلال ودولته. ف"معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي" التي أقرتها الجامعة العربية عام 1950، بعد عامين من النكبة العربية في فلسطين، نصت على أن أي اعتداء يقع على أي دولة عربية يعدّ اعتداء على كل الدول الأعضاء الموقعة عليها، لكن تلك المعاهدة لم تفعل إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ولا ضد عدوان دولة الاحتلال على مصر وسوريا والأردن ولبنان عام 1967، ولا إبان حرب تشرين/أكتوبر عام 1973، ولا إبان حرب الكويت والعراق عام 90-1991، ولا خلال الغزو فالاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982، ولا خلال الغزو فالاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ولا ردا على الحروب العدوانية الثلاثة التي شنتها دولة الاحتلال على قطاع غزة منذ عام 2008. والجدير بالملاحظة أن عباس بمطالبته بتفعيلها إنما يعلن إن كانت مطالبته جادة بطلان اتفاقيات أوسلو مع دولة الاحتلال التي تحرم منظمة التحرير من أي تعاهد دفاعي مع أي طرف ثالث من دون موافقة حكومة الاحتلال، لكنه في كلمته أمام القمة كرر "التزام القيادة الفلسطينية بتعهداتها" وتأكيدها على "أن أيدينا لا زالت ممدودة للسلام". لقد حذر الرئيس عباس "الأشقاء القادة" من أن "القدس الشرقية تعيش ربع الساعة الأخير قبل أن يكتمل مخطط تهويدها"، ومن أن دولة الاحتلال قد "تنكرت … لكل الاتفاقيات المعقودة معها" ولم يعد يوجد فيها "شريك … نصل معه إلى تسوية للصراع عبر المفاوضات"، وأن "العلاقة مع إسرائيل لا يمكن أن تستمر على ما كانت عليه في السنوات الماضية". وهذه مطالبة واضحة وإن لم تكن مباشرة بإعادة النظر في استراتيجية المفاوضات السابقة التي تبنتها الجامعة العربية حتى الآن. غير أن القمة في بيانها الختامي لم تجد حتى كلمات كافية للرد، فقد أعوزتها الكلمات لتكتفي ب(34) من (1150) كلمة تضمنها بيانها خصصتها لتأكيدها على "محورية القضية الفلسطينية كونها قضية كل عربي" بينما تمحور معظم تركيزها بعيدا عن هذه القضية، ولتتعهد بأن "يظل التأييد العربي التاريخي قائما" لهذه القضية بينما المطلوب فلسطينيا تفعيل هذا التأييد عمليا وفي الوقت الحاضر، وبدلا من الوعد بإعادة النظر في الأقل في الاستراتيجية العربية الفاشلة حتى الآن لإنهاء الاحتلال أعادت القمة رطانتها المألوفة عن "مقررات الشرعية الدولية" التي ظلت وتستمر مجرد حبر على ورق مثلها مثل قرارات مؤتمرات القمة العربية، وأعادت التأكيد على "مبادرة السلام العربية" كمرجعية لحصول "الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه" التي يعرف "الأشقاء القادة" و"القيادة الفلسطينية" قبل غيرهم أنها لا تعد عرب فلسطين إلا بحقوق منقوصة. ولم يفت عرب فلسطين ملاحظة أن بيان قمة القاهرة العربية قد بخل عليهم بذكر كلمات مثل "القدس" و"فلسطين" و"الاحتلال الإسرائيلي" و"العدو الصهيوني" و"الاحتلال الإسرائيلي" "العدو الرئيسي للأمة" و"إرهاب الدولة" الذي تمارسه دولة الاحتلال ضدهم وهو ما يفرغ مفهوم "الأمن القومي العربي"، وهي العبارة التي تكرر ذكرها ثماني مرات في البيان، من أي مضمون فلسطيني يمكنه ان يحظى بالحد الأدنى من الصدقية لدى العرب سواء في فلسطين أم في غيرها. في كلمته أمام قمة القاهرة دعا الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي إلى تغيير في المنظمة الإقليمية يجعلها "أداة للتغيير المسؤول"، واعتبر أن قرار إنشاء "قوة عربية مشتركة" تطور "يرتقي بمستوى العمل العربي المشترك ويعبر عن الإرادة الجماعية في صيانة الأمن القومي العربي". لكن كيف يمكن لقوة كهذه تسند ظهرها إلى معاهدات الصلح المنفرد و"مبادرة السلام العربية" الجماعية مع دولة الاحتلال، وتعمل ضمن الاستراتيجية الإقليمية للولايات المتحدة الراعية للاحتلال ودولته، وتستبدل التحدي الذي يمثله "العدو الصهيوني" الاستراتيجي للأمة ب"تحديات" خطر الإرهاب و"الخطر الإيراني"، فتسقط أي مواجهة مع دولة الاحتلال ومقاومة لها من حساباتها … كيف يمكن لقوة كهذه أن تكون رافعة ل"صيانة الأمن القومي العربي"، خصوصا لشعب ما زال يخضع للاحتلال في فلسطين، ولشعب ما زالت أرضه محتلة في سوريا ولبنان! إنها لمفارقة مفجعة حقا أن ذات القوى التي تصدت للحركة القومية العربية التي اتخذت من قضية فلسطين القضية المركزية لها وأسقطت الوحدة المصرية السورية التي أنجزتها هي القوى ذاتها التي ترفع اليوم راية "الأمن القومي العربي" المفرغ من أي مضمون فلسطيني.