(( أمريكا و الدول الغربية مستعدة لقبر ما تسميه ديمقراطية إذا ما سمحت بقيام أنظمة إسلامية )) دأبت الولاياتالمتحدة على لعب لعبة الديمقراطية للضغط على الدول و إخضاعها و التدخل في شؤونها الداخلية و دائما تحت مسمى الدفاع عن الحريات و الديمقراطية . و نصّبت نفسها قائدة لما تسميه بالعالم " الحر" عالم " الحضارة و التنوير " . و لكن الواقع و التاريخ يكذبها و يفضح جرائمها البشعة المرتكبة بإسم الديمقراطية و حقوق الإنسان . و إذا ما سلمنا بأن المصلحة تأتي قبل الديمقراطية و حقوق الإنسان و أن الديمقراطية نفسها وسيلة من الوسائل و ليست غاية بالنسبة للولايات المتحدة فسنصل إلى نتيجة واحدة انه ليس من مصلحة الولاياتالمتحدة نشر الديمقراطية في العالم و بالطبع لن يكون أيضا من مصلحتها تحول الدول العربية من دول ديكتاتورية إلى دول ديمقراطية . فقد كثر مؤخرا الكلام عن ضرورة إصلاح الأنظمة العربية و ترسيخ مبادئ الديمقراطية حتى انه من المتوقع أن يلقي باول قريبا خطابا يتكلم فيه بإسهاب عن رؤية الولاياتالمتحدة للإصلاح في البلاد العربية . لكننا نتساءل هل من صالح الولاياتالمتحدة قيام ديمقراطيات عربية حقيقية ؟ من خلال التجارب الماضية و من خلال تاريخ السياسة الأمريكية سواء إبان الحرب الباردة أو حتى خلال عقد التسعينيات فإننا نجد أن أمريكا دعمت و مازالت تدعم الأنظمة الديكتاتورية سواء في البلاد العربية أو خارجها . و كلنا يذكر أن أشهر السفاحين في النصف الثاني من القرن العشرين كانوا حلفاء مقربين لدى الولاياتالمتحدة بدءا بشاه إيران الذي أحيته من جديد و أعادته إلى الأضواء بعد أن دبرت انقلابا سنة 1953 ضد حكومة محمد مصدق المنتخب من الشعب الإيراني الذي كانت خطيئته الوحيدة قيامه بتعميم الشركة الإيرانية البريطانية للنفط الشيء الذي لم يرق للأمريكان و السفاح بينوشي الذي أتت به أيضا المخابرات الأمريكية سنة 73 مكان سالفادور أليندي المنتخب من الشعب الشيلي . و تاريخ بينوشي الإجرامي لا يخفى على أحد فيكفي القول أن هذا السفاح قتل عشرات الآلاف من أبناء شعبه بكل برودة دم طوال عقدي السبعينات و الثمانينات و ما تزال عائلات الضحايا تتابعه في المحاكم . و دعمت أيضا الديكتاتور سوهارتو ووفرت له غطاءا سياسيا و مساعدات عسكرية لاحتلاله تيمو ر الشرقية و لم تقل أمريكا شيئا وقتها إلا بعد مرور أكثر من 24سنة . و لا ننسى أيضا دعمها لموبوتو سيسيكو ديكتاتور زائير سابقا الذي اتهمته العديد من منظمات حقوق الإنسان المستقلة بارتكاب جرائم حرب و لكنه بدل أن يحاكم عاش في سلام تحت الرعاية الأمريكية شأنه في ذلك شأن كل القتلة و مصاصي الدماء الذين يجدون الملاذ الآمن تحت الرعاية الأمريكية لهم . يقول الصحفي الأمريكي الشهير إدوارد هيرمان في مجلة ( زد نيوز ) : " يشهد التاريخ بأن الولاياتالمتحدة ساندت و بقوة أنظمة ديكتاتورية عديدة . فقد استطاعت خلال الفترة ما بين 1945و 1990 أن تبقى في الحكم أنظمة دموية ". هذا إضافة إلى لائحة طويلة من الأنظمة القمعية التي ساندتها بكل قوة و منها أنظمة النيجيري اباتشا و الكوبي باتيستا و الهايتي راوول سدراس و الفليبيني ماركوس و البانامي نورييغا و الباكستاني ضياء الحق و السفاح الأرجنتيني الشهير جورج رفاييل و القائمة تطول . أما علاقة الولاياتالمتحدةالأمريكية بالعرب فحدث و لا حرج و حتى صدام الذي تتهمه الآن بأبشع التهم كان بالأمس فقط حليفا و صديقا حميما لها و كانت تزوده بالأسلحة الكيماوية و البيولوجية التي تقيم الدنيا اليوم و لا تقعدها من أجل نزعها . فقد جاء في خبر نشر في صحيفة النيويورك تايمز قبل شهرين أن مجموعة من الضباط الأمريكيين اعترفوا أن الولاياتالمتحدة زودت فعلا العراق بأسلحة الدمار الشامل للقضاء على إيران إبان الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات . و جاء في صحيفة ( كلاريون ليدجر ) الأمريكية بتاريخ 25 أكتوبر الماضي ما يلي : " يجب علينا كأمريكيين أن نتذكر لقاءات دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الحالي مع صدام حسين و طارق عزيز خلال الثمانينات و هي اللقاءات التي نسق فيها رامسفيلد مع العراقيين عملية تسليمهم أسلحة كيماوية و بيولوجية استخدمت ضد إيران و ضد الأكراد في حلبشة سنة 1988 و التزمت أمريكا الصمت حيال ذلك " . هذا مثال على طريقة التعامل الأمريكي مع العرب . فهي لا يهمها إن كانت هناك ديمقراطية أو حرية رأي بقدر ما يهمها تحقيق و تأمين مصالحها في هذا البلد أو ذاك . و هذا ما يفسر دعم الولاياتالمتحدة للعديد من الأنظمة العربية التي تطلق عليها ألقاب من قبيل " دول صديقة " و " دول معتدلة " مع العلم أن هذه الأنظمة لا تختلف كثيرا عن النظام العراقي أو السوري أو الليبي و هي الأنظمة الداعمة للإرهاب حسب التعريف الأمريكي . الواقع انه ليست هناك ديمقراطية حتى على مستوى مجلس الأمن فمبدأ رأي الأغلبية يفترض إلغاء حق " الفيتو" الذي هو صراحة رمز لتسلط القوى الاستعمارية حتى تضمن مصالحها . و الغريب أن هذا الحق أصبح بعد سقوط الاتحاد السوفياتي حكرا على الولاياتالمتحدة فقط و إذا ما أرادت روسيا أو فرنسا أو الصين أو حتى بريطانيا اللجوء إليه فيتوجب عليها التفكير ألف مرة قبل القيام بذلك , لكن الولاياتالمتحدة لا تحتاج إلا لبضع دقائق لتستخدمه . إذا فهنا تعارض و تناقض واضح بين مبادئ الديمقراطية كما روج لها الغرب و بين الواقع العملي المعاش . و اليوم أصبح من البديهي أن المصالح هي المحرك الأساسي و الفعلي للغرب عموما و هو مستعد لبيع أبنائه لتحقيقها . و الولاياتالمتحدة ترى أنه مادامت مصالحها مضمونة في البلاد العربية " الصديقة " فلا داعي لقيام أنظمة ديمقراطية . فعلى المستوى السياسي و باستثناء بعض القضايا هناك دعم متواصل من هذه الأنظمة للسياسات الأمريكية خصوصا في محاربة الإرهاب و هناك أيضا فتح للباب على مصراعيه أمام سيطرة كبرى الشركات الأمريكية على هذه البلاد و احتكارها لكل العقود الاستثمارية الخارجية . هذا بالإضافة إلى لعبة الديون الخارجية التي كبلت البلدان العربية لأن الأنظمة في هذه البلدان تورط شعوبها في كل مرة في ديون قد تتطلب عقودا للتخلص منها. فحسب تقارير اقتصادية عربيةو غربية وصلت الديون العربية إلى 560 مليار دولار و لا يسدد منها سنويا إلا 40 مليار مما يرفع نسبة الفوائد الشيء الذي سيضعف الاقتصاديات العربية اكثر فاكثر .
الغول الإسلامي
من الأسباب المهمة في استمرار دعم الولاياتالمتحدة لأنظمة القمع في العالم العربي خوفها من قيام أنظمة إسلامية قد تقلب الطاولة عليها كما حدث في إيران . و لهذا فان الدعوة إلى ديمقراطية حقيقية يعني فتح الباب أمام كل فئات الشعب بدون تمييز لأن هذا هو روح الديمقراطية و لكن ماذا لو صعدت أحزاب إسلامية ؟ هنا تقف أمريكا و الغرب عموما ليقولوا بأعلى صوتهم لا للديمقراطية و نعم لأنظمة القمع . و كلنا يذكر ما حدث في الجزائر حين ألغى الجيش نتائج الانتخابات الديمقراطية سنة 1991 لأنها جاءت بحزب يحمل شعارا لا يحبذ الغرب رؤيته و هو الشعار الإسلامي . فقد صمتت أمريكا زعيمة "العالم الحر" و صمتت معها فرنسا بلد" التنوير" حتى أن كلا منهما صرحتا بأن ما حدث في الجزائر هو شأن داخلي . و لكن لم يكن الأمر شأنا داخليا حين توترت العلاقة بين المعارضة الصربية و نظام ميلوزيفيتش و ساندت أمريكا و الغرب المعارضة بكل قوة فلماذا لم يساندوا جبهة الإنقاذ الإسلامية ؟!! لان هذه الأخيرة إسلامية . أمريكا و الدول الغربية مستعدة لقبر ما تسميه ديمقراطية إذا ما سمحت بقيام أنظمة إسلامية و هذا العداء لكل ما هو إسلامي ليس وليد اليوم بل هو سياسة متبعة منذ عقود مضت . يقول البروفيسور الاسرائيلي اسرائيل شاحاك في كتابه " السياسات الاستراتيجية النووية الإسرائيلية " (( تؤهل ظروف الشرق الأوسط إسرائيل لتكون الحارس الأمين للأنظمة المحيطة بها أمام الخطر الإسلامي )). و يكفينا في هذا المقام تصريح زبيغينو برجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في إدارة الرئيس كارتر و الذي نقلته صحيفة الواشنطن بوست بعد اشهر من قيام الثورة الإيرانية حيث جاء فيه " أن الإدارة الأمريكية تشعر بقلق بالغ إزاء تزايد الحركات الإسلامية المنتشرة في العالم الإسلامي و أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بحاجة إلى إعداد دراسة جديدة حول الحركات الإسلامية و مراقبتها عن كثب , حتى لا تفاجأ باندلاع ثورة إسلامية جديدة في أي مكان من العالم الإسلامي , لأن أمريكا حريصة على عدم السماح للإسلام بان يلعب دورا مؤثرا في السياسة الدولية ". أما اليوم فهذا العداء و الخوف تضاعف بعد 11 سبتمبر و نذكر أن رامسفيلد رد على احتجاجات وسائل الإعلام حول معتقلي غواتنامو قائلا أن هؤلاء لا يستحقوا إلا هذه المعاملة و هذا بالضبط ما يردده بعض الكتاب و المسئولون الغربيون الذين يرددون دائما مقولة أن الأحزاب الإسلامية معادية للديمقراطية فلا يجوز التعامل معها إلا بالقمع و السجون . و هم بالتالي يشرعون للسياسات القمعية المتبعة ضد العديد من الحركات الإسلامية في البلاد العربية و الإسلامية و تركيا خير مثال على ذلك . نعم ليس من صالح أمريكا قيام أنظمة إسلامية أو أنظمة وطنية تعبر بصدق عن إرادة شعوبها و تستشيرها قبل القيام بأي خطوة ما . هذا لان أمريكا تعلم أنها دولة مكروهة في الوسط الشعبي العربي بسبب سياساتها في الشرق الأوسط و تاريخها الأسود في المنطقة . و لنلاحظ مثلا أنها كانت قد صرحت قبل اشهر برغبتها في رؤية سلطة ديمقراطية فلسطينية لكن بشرط أن لا ينتخب عرفات مرة أخرى . فهي هنا تريد ديمقراطية لكن ديمقراطية بالمواصفات الأمريكية . و هذا أيضا ما تريده في الوطن العربي فهي تريد ديمقراطية تقصي الإسلاميين و تجلب أحزابا موالية لها و تضمن لها مصالحها الاقتصادية في المنطقة و تفتح أبواب البلد أمام شركاتها . و ينطبق هذا أيضا على الإسلام فهي تريد إسلاما يدعو إلى السلام و إلى حب اليهود و النصارى و لا يشجع على الإرهاب( الجهاد ) و ليس إسلاما يدعو للدفاع عن النفس و يدعو لاسترجاع الحقوق الضائعة و تحرير الأرض و نشر الدعوة و إقامة نظام اقتصادي إسلامي لان هذا الإسلام مرفوض من " زعيمة العالم الحر ". نستخلص من كل ما سبق أن قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية في البلدان العربية ليس في صالح أمريكا لان هذه الديمقراطية ستفتح الباب أمام الأصوات المعادية لها . و هي الآن أمام خيارين إما الاستمرار في دعم هذه الأنظمة القمعية مع ما يشكله هذا من حرج أمام الرأي العام الأمريكي و الدولي أو الضغط من أجل إرساء مبادئ الديمقراطية الحقيقية . و أمريكا بالطبع اختارت الخيار الأول لأن أية إدارة أمريكية تنتخب ما هي إلا متكلم باسم كبرى الشركات الاستثمارية الأمريكية و هذه الشركات لا تدين إلا بالدولار فقط و لأن هذا الخيار جزء لا يتجزأ من السياسة الأمريكية الخارجية .