لعل الصحافة كمهنة وعمل مفهوم جديد أفرزته التطورات الحضارية في مختلف وجوهها بعد أن دعت إليه اعتبارات إنسانية شتى، منها ما هو ذاتي كحب الاستطلاع، والرغبة في سبر أغوار الواقع المعيش، ومنها ما هو موضوعي قد استهدفته مقتضيات سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وثقافية... وبهذا المعنى اعتبرت الصحافة إعلاما اجتماعيا، حيث أصبحت تساهم في مختلف الأنشطة الفكرية التي تتجه نحو الأفراد لتحكم سلوكهم وفق منطور معين تحدده أنساق إيديولوجية لمختلف الاتجاهات التي تمثلها وسائل الإعلام المختلفة والخاضعة في اتجاهها الوظيفي لأهداف واعتبارات راسخة تحكم سيرها أسلوبا وموضوع وهدفا. وبذلك يشكل العمل الصحافي الإعلامي عموما مظهرا حضاريا متميزا يستقي مادة وجوده من الحدث، ذلك الحدث الذي تخلقه ظروف معينة إنسانية أو طبيعية ليتخذ منه العمل الصحفي مجالا لحركته الحيوية الدائبة. وعالم الصحافة عالم متحرك ولود، تختلف وقائعه وتتباين مهما اتحدت في الزمان والمكان. شعاره "لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين" باعتبار أن الواقع الإنساني لحظة لا تتكرر، ولعل ذلك ما يلزم الصحافي بأن يختار لكل حدث أسلوبا خاصا حتى يظهر استقلاله عن غيره من الأحداث باعتبار أن لكل حدث روحا تحركه. ولا محالة أن الصحافي المقتدر هو من يعتبر الصحافة نوعا من العمل الأدبي الذي يومن بعبقرية اللفظة، وجلالة اللحظة، فيجعل من علاقة الألفاظ بدلالاتها علاقة العلة بالمعلول ثم يربط بين اللحظة والحدث بخيوط من الواقع. وهكذا تتآزر بذلك العمل الفني التقنية الصحفية لتنسجم عناصر الحدث، وتتشكل تلك الوحدة العضوية التي ترسم الأبعاد الحقيقية لتلك الصورة التي يريدها الصحافي أن تستقر في ذهن القارئ والمستمع على السواء. والصحافي المقتدر هو من يومن برسالة العمل الصحفي والإعلامي عموما ويعتبره خطابا موجها لكل الفئات مهما اختلفت أعمار أفرادها وأجناسهم وقدراتهم الفكرية ومستوياتهم الثقافية ووظائفهم السياسية والاجتماعية،... فلا يورد من الأخبار إلا ما يهم اللحظة الحاضرة قبل غيرها باعتبارها حجة اليوم ودليل الغد، ولا ينتقي من تلك الأخبار الكثيرة المختلفة إلا ما قد صح سنده بالمشاهدة أو غيرها من وسائل الاستشهاد. والصحافي المقتدر من جهة أخهرى هو الذي يفرق بين صحافة الخبر وصحافة الرأي فيما يقدمه خدمة للشعار الصحافي عندنا "الخبر مقدس والتعليق حر". فلا يدلي برأي أو يعلق على خبر إلا إذا دعت الضرورة لذلك، وآنس في نفسه القدرة على ما هو مقدم عليه حتى تستقيم الصحافة عندنا وتتخلص من ذلك التراكم من السخافات التي أصبحنا نحياها كثيرا مع صحافتنا المحترمة مما قد يملأ الفضاء النفسي لكثير من القراء بجملة من التناقضات بين الخبر والواقع، أو بين الحقيقة والوهم فيلعنون العمل الصحفي ليعتبروه من ثم بحرا لجيا عميقا، الداخل إليه مفقود، والخارج منه موجود. أو لينقلوا دلالة الآية الكريمة: (والشعراء يتبعهم الغاوون) ليربطوا بين غواية الشعراء وضلالة الصحفيين. والصحافي المقتدر أخيرا هو من يقدر مسؤوليته تجاه هذا السديم البشري الهائل الذي يأخذ عنه ويتأثر به. وذلك يعني أن سلطة الإعلام المعنوية لا تضاهيها أية سلطة في عالمنا المعاصر، ولعل الإحساس بتلك السلطة هو الذي دفع بأنصار الراديكالية في مجال التنظير الإعلامي إلى اعتبار الإعلام مدرسة مفتوحة تغني عن كل مؤسسة في إعداد إنسان اليوم للتغلب على مشاكله غدا. امحمد الإدريسي شاعر وكاتب وصحافي أستاذ اللغة العربية بالتعليم الثانوي بفاس