ليس هذا وحسب، بل إن حركة التدوين ذاتها وحركة التأليف بعدها، حاصرت امتداد المفهومين وضيقت من دلالاتهما المستوعبة لواقع الأمة علما وعملا. وأمسى الاجتهاد مبحثا من مباحث الفقه والأصول، تجده في آخر هذه المؤلفات إلى جانب مبحث التقليد، وغالبا ما يحتل هذا الأخير من الحيز أكثر مما يحتل الأول. أما التجديد فلا تكاد تجد له ذكرا إلا عند شروح حديث أبي داود حيث غلبت عليه تعريفات المحدثين. ليس المراد هنا قطعا التنقيص أو التقليل من شأن تلك المؤلفات أو المدارس كما قد يتوهم البعض، وإنما المراد استئناف البحث والنظر في دلالات الاجتهاد والتجديد من خلال "رؤية" تتحرك داخل النسق المدرسي أو المذهبي وخارجه أيضا، في إطار خصائص الإسلام الكبرى، التوحيدية والشمولية والواقعية والإنسانية... وغيرها. ستجعل الاجتهاد والتجديد في العلوم الإنسانية والكونية كالاجتهاد التجديد في العلوم الشرعية، وتجعلهما بالمعنى العام هم الأمة قاطبة لا هم نخبة فيها فقط. مادامت السنن والدلائل والآىات الهادية نصية وإنسانية وكونية. وما دام الإنسان كل إنسان مكلفا بالتعمير والاستخلاف ومتحملا للأمانة، قل نصيبه في ذلك أم كثر، تماما كما هو ومكلف بالعبادة. ومن مداخل هذا البحث المنهجية الرصد التاريخي لظاهرة "الانقلاب" والفكري في الأمة الذي انتهى إلى محاصرة الاجتهاد والمجتهدين والتجديد والمجددين ولا يخفى هنا أمر أعلام تقدموا أزمانهم بقرون كابن تيمية والشاطبي وابن خلدون والشوكاني.. وغيرهم. وكيف شاع التقليد في الأمة وهو عليها دخيل وانحسر الاجتهاد وهو فيها أصيل؟ لابد إذن من عودة تحريرية بنائية لهذا الأصل العظيم: الاجتهاد، ومعه التجديد كذلك، على أصول وقواعد ومقاصد الشرع التي ينبغي أن تكون ثابتا يلازم المفهوم في رحلته مكانا وزمانا إذ من خصائصها الانفتاح والشمول والاستيعاب لمتغيرات الزمان والمكان. وليس ذلك للتعريفات والاصطلاحات الخاصة بالمدارس والمذاهب التي هي تجسيدات محكومة في غالبها بمتغيرات الزمان والمكان.
الإصلاح والتغيير... جماهيري لا نخبوي، وكلي لا جزئي، ووسطي معتدل إن الدرس الذي يمكن أن نستفيده من عدم نجاح كثير من حركات الإصلاح والتغيير والنهضة والتحديث، هو عدم تحققها بشروط أساسية تضمن لها هذا النجاح أو قدرا منه على الأقل. أولها: أن تنطلق من قناعات جماهيرية شعبية تتأطر حول المشروع وتسنده وتكون له قواعد رافدة وداعمة. وهذا يتطلب التحرر قدر الإمكان من التغيير والتحديث النخبوي الذي لا تكون خلاصاته ونتائجه إلا هامشية وسطحية ومعزولة مهما كان أصحابها متنفذين، وإن كان فيه من فائدة فلصالح النخبة ملا القاعدة. ،تجنب سهذه الآفة يستلزم تواصلا كاملا مع القاعدة تكون ميزته الأساسية الشفافية والوضوح والشورى والديموقراطية الحقة. مما يعزز قيم الثقة ولاصدق والالتزام والوحدة والتآزر والجدية والانضباط في هذا الجسم أو ذاك. ثانيها: أن رصد مشكلات موعلل المجتمع ضمن مشروع إصلاحي تحديثي يستوجب أن يكون كليا شاملا لا جزئيا قاصرا، بحيث يغطي أكبر مساحة ممكنة مهما تفرعت مع إمساكه بأصول الانحراف والفساد يتتبعها بالعلاج الموضعي أصولا وفروعا، وهذا يضمن لمشروع مالإصلاح والتحديث قدرا من الواقعية والإحاطة الميدانية في العمل. ذلك أن التركيز على جزء معين وإهمال أجزاء أخرى هو كعلاج عضو في جسم يعاني من انهيار تام في سائر أعضائه. وهذا الذي حصل لكثير من حركات الإصلاح والتغيير في الأمة والمجتمع، ذات النظر الجزئي الذي لا يبصر الأمور في سشمولها وتركيبها العام، وإذا تعذر على نموذج إصلاحي هذا الإلمام الكلي فلا أقل سمن أن يتكامل مع غيره في ذلك. ثالثها: أن يلزم مشروع النهضة والإصلاح خط الوسطية والاعتدال الذي ينأى به عن الغلو والتطرف والشذوذ في الأقوال والأعمال. والوسطية مقوم من مقومات الثقافة الإسلامية، وخصيصة من خصائص هذه الأمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، وفي الأثر عن عائشة رضي الله عنها: >ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما< وفي رواية >أوسطهما< ثم إن الوسط من الشيء خياره. فالوسطية إذن منهج ورؤية قائمة على التيسير لا التعسير والتبشير لا التنفير والمطاوعة عند الاختلاف كما ورد في الحديث التوجيهي للرسول صلى الله عليه وسلم إلى صحابته الكرام. وهي أيضا قطب جامع تؤوب إليه الأطراف عن اليمين وعن الشمال. فالوسطية والاعتدال في الفكر والتحلي بمنطق الموازنة والترجيح والتدرج، وعدم الغلو إفراطا أو تفريطا في الفهم والسلوك... كل ذلك من عناصر نجاح تجربة الإصلاح والنهضة في المجتمع. وما ظهرت أشكال الانحراف والغلو في مجتمعات الأمة في تيارات ومذاهب مدينية وسياسية وفكرية إلا لما وقع الحياد عن هذا الخط والنهج الأصيل، وحصل التورم والتضخم في جزء أو جانب على حساب البنيان ككل.