ذ إذا كانت الانتخابات التّشريعية 2002 قد أتت فعلا بجديد، فلعلّ أهمّ ما جاءت به يكمن في النّتيجة التي حقّقها حزب العدالة والتّنمية؛ نتيجة لم تكن مفاجئة، بل على العكس كانت متوقّعة لدى المتتبّعين المتخصّصين وطنيين ودوليين، كما كانت منتظرة من طرف عامّة المواطنين لِما خلّفته لقاءات التّواصل مع أهل المصباح من صدى طيّب في قلوب النّاس - كبارا وصغارا رجالا ونساء - خلال الحملة الانتخابية 2002 بل منذ الحملة الانتخابية 1997. بين التّهنئة والتّعزية آن للمصباح أن يشتعل من السّلوكات الشّائعة التي ألف النّاس ممارستها بعد ظهور نتائج "المعركة الانتخابية" تقديم التّهاني ل "الفائزين" الذين اعتادوا على إقامة الولائم للاحتفال بهذا الفوز. وهذه مناسبة لتهنئة أهل المصباح، ليس من قبيل التّهنئة الشّائعة التي هي تهنئة على الغنيمة وعلى "الرّبح"، لكن من قبيل التّهنئة بالثّقة التي حظي بها مرشّحوهم من طرف المواطنين الذين لطالما انتظروا مصباحا ينير دربهم ويبعث الأمل في قلوبهم ويعيد إليهم شيئا من الاطمئنان الذي افتقدوه في ظلمة عقود من الدّهر خلت. فهنيئا لنواب العدالة والتّنمية بالثّقة التي هم إن شاء الله أهل لها وأحقّ بها. إلاّ أنّ هذه الثّقة ثقيلة ومشروطة؛ إذ حوّلت هؤلاء المصابيح من مجرّد مرشّحين إلى ممثّلين حقيقيين لفئة عريضة من المواطنين. ممثّلين يتحمّلون مسؤولية عظيمة، هي مسؤولية النّيابة عن الأمّة والذّود عن حرماتها وحماية مقدّساتها وخدمة مصالحها السّامية؛ وهي مسؤولية جسيمة يصدق عليها قول الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم : {وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا}1. ولا شكّ أنّ حمَلة المصباح - وهم الذّين تربّوا في أحضان الحركة الإسلامية - يقدرون هذه المسؤولية حقّ قدرها وأنّهم حريصون أشدّ الحرص على أداء الذي عليهم فيها. فلا نُعزّيهم على هذا الحمل الثّقيل، ولكن ندعو لهم سائلين الله تعالى أن يوفّقهم ويسدّدهم كما نسأله تعالى أن يعينهم على أداء أمانتهم وعلى الوفاء بعهودهم وأن يُثبّتهم على الحقّ المبين وأن يحفظهم بما يحفظ به عباده الصّالحين. الاختيار التّحدّي إنّ المغاربة - وهم يصبّون الزّيت في مصباح العدالة والتّنمية يوم الجمعة 27 شتنبر 2002 - تحدّوا صراحة كلّ الهواجس والكوابيس وكلّ الدّعايات المغرضة وكلّ التّحذيرات الكاذبة المسعورة التي أرادت أن تصوّر الحركة الإسلامية غولا يحمل كلّ أسباب الدّمار والخراب وشبحا مخيفا يتهدّد الأرواح والحريّات. وهذا التّحدّي ليس نابعا من روح المغامرة والمقامرة؛ إذ ما ثبت قطّ عن المغاربة أنّهم يقامرون بمستقبلهم ومستقبل بلادهم، ولكنه تحدٍّ راجع إلى الثقة الحقيقية التي وضعوها في هذه النّخبة الملتزمة من حملة المصباح. هذه النّخبة التي عرفوها معرفة كافية وألفوها في أحيائهم ومساجدهم ومقرّات عملهم، وجرّبوها من خلال أداء السّابقين من أبنائها في البرلمان الماضي، ووضعوا ثقتهم فيها بفضل السّمعة الطّيبة التي استطاعت الصّحوة الإسلامية في المغرب أن تكتسبها وهي تدخل سائر البيوتات، لا من باب العنف والإرهاب كما يحلو للبعض أن يُصور ذلك، لكن من باب الدّعوة إلى الله تعالى، تلك الدّعوة التي هي في الأصل دعوة إلى الخير وإلى الرّشد وإلى الصّلاح والفلاح، لتظهر هذه الصّحوة على حقيقتها نموذجا صالحا للصحوة الراشدة المتّزنة المعتدلة التي تسعى بكلّ جهدها لمصلحة هذه الأمّة ولا تتردّد في التّضحية في سبيل خير هذه البلاد. ثقة معوّقة إنّ هذه الثّقة مشروطة بشروط لا بدّ من الانتباه إليها. فقد ذهب المغاربة إلى صناديق الاقتراع يحدوهم الأمل في أن يحصل التّجديد المنتظر، وأن تظهر بوادر التّغيير الحقيقي المنشود. ولسان حالهم كأنّه يقول: هذه المرّة لن نُكرّر المأساة، وسنصنع الحدث وسنعيش التّغيير. وهم في الوقت ذاته يعلمون أنّ نوّاب العدالة والتّنمية لا يملكون العصا السّحرية التي ستحوّل البلاد بطفرة نوعية إلى أفضل الأحوال، كما يعلمون أن النّتيجة التي حصل عليها هؤلاء النّواب لا تخوّلهم الأغلبية المطلقة التي تؤهّلهم لتنفيذ برنامجهم الإصلاحي على كلّ الأصعدة، وأنّهم لا محيد لهم عن أحد خيارين: - إمّا أن يشاركوا في حكومة مختلطة مع أولئك الذين تربّعوا على كراسي الحكم منذ أمد بعيد، والذين ما وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه إلاّ في عهدهم وخلال ولايات حكمهم. - وإمّا سيظلّون في المعارضة يتحسّرون على الأمور التي لا تسير وفق ما يطمحون إليه وهم غير قادرين على فعل شيء إذ الغلبة في الدّيمقراطية وتحت قبّة البرلمان تكون لعدد الأصوات وليس للحقّ على الباطل ولا للصّواب على الخطأ. و الواقع الآن أنّ المغاربة يطمحون في التّجديد، ويريدون أن يتذوّقوا نشوة التّغيير الحقيقي, وإلاّ فإنّهم - لا قدّر الله - سيفقدون الثّقة بصفة نهائية في الاستحقاقات القادمة لأنّهم لعبوا آخر ورقة كانوا يرجون فيها الخير. وهنا يكمن ثقل هذه الثّقة التي أحرزها المصباح. ثقة تستوجب الاستجابة لطموحات هذا الشّعب المسكين الذي طال انتظاره لغد مشرق بالأمل وبالرّفاهية؛ لكنّها في الوقت ذاته معوّقة ومقيّدة بمجال ضيّق جدّا من الصّلاحيات والإمكانات. تجربة رأس مالها الأمانة مهما يكن. فإنّ أعظم أسباب يأس وتدمّر المغاربة من تجاربهم السّياسية ومن حكوماتهم السّابقة، انعدام الأمانة بالدّرجة الأولى. سواء تعلّق الأمر بأمانة المال أو أمانة الأعراض أو أمانة المقدّسات بشكل عامّ ... - فمن جهة المال، سئم المغاربة الحديث عن التّقشّف وعن الجفاف ومخلّفات الجفاف التي لا تنتهي، كما سئموا الحديث عن المديونية الدّاخلية والخارجية، وعن القروض والمنح التي ما إن يسمعوا بها حتّى ينقطع خبرها دون أن تخلّف أثرا يُذكر. كما سئموا السّرقات والخيانات المالية الكبيرة التي لا يُتَابع أصحابها ولا يحاكم مرتكبوها. وفي الوقت الذي يودّي فيه عامّة المواطنين ضريبة "ضياع الأمانة" تبقى الحكومة وأعضاء الحكومة والبرلمان ونواب البرلمان في بروجهم العالية وفي مأمن من التّقشّف ومن الفقر ومن المديونية ومن كلّ شيء، بل لا يزيدون إلاّ غنى ورفاهية. - ومن جهة الأعراض، فقد أصبح المغاربة يتوقون إلى قليل من الأمن على أعراضهم. وإلى أن يعود لشوارعهم ومدارسهم وشواطئهم ومحلاّتهم العمومية شيء من الوقار والحياء والأمن. لأنّهم سئموا الحديث عن حالات الاغتصاب وعن العصابات التي تتاجر في أعراض القاصرين والقاصرات وعن الأشلاء الممزّقة التي يُقذف بها في الأكياس في نقط رمي القمامة ..... - أمّا من جهة المقدّسات، فقد سئم المغاربة هذه الحكومات المتنكّرة لأصالتها ولمقتضيات شرعها ودينها. فبعدما كانوا لا يسمعون عن "الكازينوهات" إلاّ في الأفلام المصرية والبرازيلية والمكسيكية البائرة، أصبح "الكازينو" واقعا في بلادهم عليهم أن يُطبّعوا معه ويألفوه بمقتضى عقدة (صفقة) حضر توقيعها رئيس حكومتهم ووزير اقتصادهم. كما أصبحوا مهدّدين فيما تبقّى من الشّريعة في قانون أسرتهم الذي ترغب حكومتهم في استبداله بخطّة مشؤومة منبثقة عن وثائق بيكن وقوانين الغرب والشّرق. وكلّما زادت الحوادث والآفات والجرائم النّاتجة عن التّعاطي للخمر والمشروبات الكحولية، كلّما زاد حرص الحكومة على التّرخيص للخمّارات وعلى تدعيم الشّركات المنتجة لها وحمايتها من الإفلاس وكلّ ذلك من المال العامّ. ومهما يكن فإنّ هذا البحث عن الأمانة المفقودة كان عاملا محدّدا في اختيارات النّاخبين يوم 27 شتنبر 2002. ولن يخيب ظنّهم في حملة المصباح إذ تُعتبر الأمانة رأسمالهم وعلامتهم وشعارهم إذ هي من أوائل الدّروس التي تربّوا عليها في برامجهم التّربوية. ولأنّهم يحفظون جيّدا قول الله تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا]2 كما يحفظون قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]3. التّواصل البنّاء مفتاح التّوفيق يبقى أمر أساسي هو ضرورة الكشف من أوّل يوم على هذه الإعاقة التي تحيط بهذه التّجربة الجديدة، فلا بدّ من أن يعرف النّاخبون أبعادها وأن يستمرّوا دعمهم لنوّابهم في كلّ مراحل عملهم، سواء شاركوا في الحكومة أو شكّلوا المعارضة وهذا لا يتأتّى إلاّ بتواصل فعّال وبنّاء يجعل المواطنين دائما على علم بما يدور في دواليب الحكم. وهذا التّواصل هو العملة الصّعبة التي من شأنها أن تُشيع الوعي السّياسي المنشود وأن تُعدّ للمراحل القادمة من مستقبل العمل السّياسي في هذه البلاد. فهل سيستطيع نوّاب العدالة والتّنمية أن يحافظوا على تواصلهم الحيوي مع النّاخبين الذين وضعوا ثقتهم فيهم؟ هذا ما ستبيّنه الأيام. نسأل الله التّوفيق والسّداد. انتهى بفضل الله 1 أخرجه مسلم في صحيحه؛ في كتاب الإمارة؛ من حديث أبي ذر. واحمد في مسنده؛ في مسند الأنصار. 2 الأحزاب؛ 72. 3 النّساء؛ 58. بقلم : ذ. أ و س ر مّا ل