الأحداث في دول الربيع العربي ما زالت تتفاعل وبدرجات قوة تختلف من دولة الى أخرى .. من الضروري ان نقرر منذ البداية ثلاث حقائق لا بد منها لفهم واقع هذه الثورات .. الاولى ، سلمية التغيير هي البديل الأنسب والأسلم لتغيير اوضاعنا العربية وإصلاحها . الثانية ، الانزلاق الى مستنقع الحروب الاهلية أو شبه الأهلية لن تدفع بالأوضاع الى التغيير والإصلاح المنشود ، وقد تؤدي الى نتائج عكسية . الحقيقة الثالثة ، التغيير والإصلاح ليس واحدا في جميع الدول العربية ، وعليه لا يمكن ان تكون طريقة الاستنساخ للتجارب هي الطريق لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات .. التغيير في اطار الاستقرار يصلح ان يكون طريقا للتغيير في بعض الدول التي يتجاوب فيها النظام مع أشواق الشعب في التغيير نحو الأفضل سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وحتى عسكريا . البديل الثوري الذي يهدم تشكيلات النظام القديم ليقيم على انقاضها نظاما جديدا بالكامل ، يصلح ان يكون طريقا للتغيير في دول أخرى لا يُتوقع من نظامها العميق ان يستسلم لارادة الشعب ورغبته الجامحة في الإصلاح الشامل . المشهد العربي العام يستحق منا وقفة تحليلية بهدف استخلاص العبر ، الا ان النموذج المصري يظل يحمل خصائص ينفرد بها لأسباب تتعلق بمصر كأكبر دولة عربية ، ولما لنجاح الانتقال السلمي للأوضاع فيها من الأثر الإيجابي على عموم المشهد العربي ومزاج شعوبه . لذلك سأقصر حديثي على هذا النموذج الذي يقف في هذه المرحلة على مفترق طرق خطير .. الجرائم التي ما يزال يرتكبها الانقلابيون الدمويون في مصر والتي بلغت حد الجرائم ضد الإنسانية لبشاعتها ووحشيتها ، والتي تهدف – كما هو واضح – لقتل التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر ، والعودة إلى عصور الظلام والاستبداد والفساد التي هَدَّتْ مصر ونقلتها من دور القيادة في عالمها العربي والإسلامي حضارة وكفاحا ضد كل أعداء الأمة ، إلى خندق التبعية والعمالة الحضارية والسياسية … هذه الجرائم وصورها البشعة التي تنقلها وسائل الإعلام حية على الهواء حتى نكاد لا نصدق أعيننا ، تضعنا أمام السؤال الوجودي والمصيري : هل أخطأت قوى ثورة 25 يناير عندما اختارت البديل الإصلاحي لنقل مصر من عهود الاستبداد إلى عصر الديمقراطية والحداثة والمعاصرة ، بدل الخيار الثوري السلمي الذي من طبيعته هدم الماضي بكل مؤسساته وبناء نظام جديد لا ولاء له إلا للثورة وأهدافها ؟؟!! هل كان من الممكن الانتقال بمصر الى بر الأمان مع بقاء مؤسسات النظام القديم وقوانينه حاكمة بلا منازع ؟! الا يفترض ان يكون منطلق التغيير ان الدولة العميقة بكل أذرعها والتي حكمت مصر لستين عاما سبقت لا يمكن ان تسلم قيادها لمن يريدون اقتلاعها ولو تدريجيا ؟! ( 1 ) الانحياز للبديل الإصلاحي لا الثوري السلمي في بناء مصر الجديدة ، بعيدا عن نوايا أصحاب هذه المدرسة التي لا نشك في إخلاصها لمصر وشعبها ، كان خطوة غير محسوبة بالقدر الكافي على أقل تقدير ، ما كان يصلح أن يكون سيد الموقف في مرحلة ما بعد سقوط مبارك ، لأن البديل الإصلاحي أبقى على كل أذرع الدولة العميقة في مواقعها وبالذات في الجيش والأجهزة الحكومية المختلفة خصوصا الحساسة منها ، الشرطة والمخابرات ، والقضاء والإعلام ، والتي ظلت تعمل ليل نهار وبشكل فاضح ومكشوف ضد كل خطوات البناء التي عملت الثورة على تشييدها وبالذات انتخاب مجلسي الشعب والشورى وانتخاب رئيس الجمهورية والاستفتاء على الدستور وغيرها …
شَنَّتْ أجهزة دولة مبارك العميقة حربا ضروسا ضد الثورة ، بل وقادت ثورة مضادة عنيفة وصلت حد توفير الغطاء لكل الجرائم والممارسات العنفية التي مارستها قوىً على الأرض سُمِّيَتْ ( الطرف الثالث ) والتي ثبت لاحقا – وبعد الانقلاب العسكري – أنها لم تكن إلا أجهزة الدولة العميقة ذاتها ، والتي طالت الدكتور محمد مرسي الرئيس المنتخب نفسه والقصور الجمهورية والمؤسسات العامة والخاصة ، ناهيك عن تنفيذها لخطط منهجية لتعطيل عجلة الاقتصاد وعرقلة الخدمات الأساسية للمواطنين بهدف إثارة الرأي العام ، وانتهاء بتوفير الغطاء لمظاهرات 30 يونيو 2013 ، تمهيدا للانقلاب العسكري الدموي في 3 يوليو 2013 ، والذي كشف حقيقة المؤامرة التي كانت تُحاك ضد ثورة 25 يناير منذ تنحي مبارك … ( 2 ) ثبت بالشكل القاطع الآن أن ( تخلي !!!!! ) المجلس العسكري عن مبارك في أيامه الأخيرة قبل التنحي ، لم يكن حبا في الثورة أو قناعة بها ، ولكن لفتح الطريق أمام المؤسسة العسكرية لشق طريقها نحو السلطة بشخصيات جديدة بعيدا عن عائلة مبارك التي كانت تعد العدة لتوريث السلطة لجمال مبارك … كانت الثورة فرصة سانحة لقيادات العسكر المتنفذين في مصر لركوب ظهرها وامتطاء صهوتها ولكن إلى حين … كانت الدلائل واضحة وإشارات التآمر فاضحة ، ولكن من انحازوا إلى الحل الإصلاحي بدل الثوري ظلوا رهائن ( نواياهم الطيبة !!) فوقعوا فريسة سهلة وثمرة ناضجة في يد العسكر المتآمرين ..
دولة مبارك العميقة الفاسدة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية ، ساهمت في إسقاط رأس مبارك لا خدمةً للثورة وأهدافها السامية ، ولكن خدمة لأهدافها هي في الاستيلاء على السلطة في الوقت المناسب … دولة مبارك العميقة أسقطت رأسها الفاسد ( مبارك ) وسمحت بأن يُرَكِّبَ الشعب بمباركةٍ منها وتحت رعايتها وفي إطار انتخابات حرة وديمقراطية هي الأولى من نوعها في مصر ، بدلا منه رأسا جديدا ونظيفا ( دكتور محمد مرسي ) ، لتُخَيِّلَ للناس من سحرها أن الثورة ماضية في تحقيق أهدافها ، لكنها في الحالتين ظلت هي ذات الدولة التي يسري في عروقها دم فاسد ، فسرعان ما أسقطت الرأس الجديد حينما حانت الفرصة ، فكان الانقلاب الذي ما زالت مصر تذوق مرارته كل ساعة … ( 3 ) كانت الدولة العميقة أكثر دهاء من قيادة ثورة 25 يناير ومن اختارتهم لقيادة مصر في خمسة استحقاقات انتخابية حرة ونزيهة …
كان على قيادة مصر الثورة أن تعي أنه لا يمكن هدم بيت السيد بأدوات نفس السيد التي بناها على مدى عقود من الزمن ، والتي من أهم أهدافها الحفاظ على بيت السيد مهما تغيرت الواجهات ، والذي كان من لوازمها حل المجلس العسكري نهائيا وتعيين قيادات عسكرية جديدة ولاؤها للثورة فقط ، وحل قيادات الشرطة والأجهزة الأمنية كاملا وتعيين قيادا جديدة ولاؤها للثورة فقط ، وحل هيئات القضاء الفاسد كلها وتعيين هيئات قضائية جديدة ولاؤها للثورة فقط ، وحل كل أجهزة الإعلام كاملا وتعيين طواقم إعلامية جديدة ولاؤها للثورة فقط ، وكان لا بد من تعيين حكومة من رجالات الثورة ومؤديها ولاؤهم لا لأحد إلا للثورة وأهدافها … هذا ما كان يجب أن يكون ، ولو كان ، لما حدثت هذه الردة .. ولكن الله غالب على أمره… الأوضاع في مصر كانت ناضجة تماما لميلاد شيء ما … الشعب كان ينتظر الفرصة السانحة … كان على موعد مع قطرة الماء التي ستسبب الطوفان … ماذا سيكون شكلها ، وماذا ستكون أدواتها ؟؟ حركة طوفان التغيير جاءت مفاجئة تماما من حيث الكم والكيف ، ومن حيث أدوات الفعل … جاءت كزلزال في قاع المحيط نضح أمواجا للتغيير أشبه ب – (تسونامي) انفجرَ من قعرٍ بلا قرار ، قَلَبَ الموازين وحقق المعجزة … هذا التغيير المزلزل في أكثر من بلد عربي ، وضعنا أمام معضلة ما زالت تشغل بال الكثير من المفكرين والمناضلين على حد سواء ، كان في صلب حوار عميق بيني وبين أحد الأصدقاء حول سبل التغيير في ظل أنظمة قمعية جعلت من التحكم في ( معرفة المقموع ) هدفها الذي تُعَوِّلُ عليه في إحكام سيطرتها وتشديد قبضتها على الشعوب ، كما يقول ( ستيفن بيكو ) أحد رموز النضال ضد نظام ( الأبارتهايد ) السابق في جنوب أفريقيا … ( 4 ) لقد حرصت أنظمة الاستبداد على التحكم في المشهد العام بكل تفاصيله ، فإن سمحت للمعارضة بمساحة ما فبقدر ما يخدم مصالحها تتسع وتضيق بناء على ذلك ، لكنها حرصت دائما على أن تظل ممسكة بالخيوط وراسمة لحدود وقواعد اللعبة ، ومحددة لأدواتها ، اعني بذلك ( أدوات السيد !!!) ، فلا يخرج فعل الآخر المختلف والمخالف ( والمشاغب !! ) في نظرها عن الحدود المرسومة ، لأنه يعرف تماما أنه وفي اللحظة التي يخرج فيها عن دائرة السيد/الحاكم المرسومة ، وفي اللحظة التي يختار فيها أدواته من خارج نطاق هذه الدائرة ، وينتج قواعده هو للعبة بعيدا عن قواعد لعبة ( السيد ) ، فإن ذلك يعني بالضرورة بداية هدم هذا البيت من قواعده ، وإزالته بالكلية وإقامة شيء آخر مكانه مختلف تماما … يبدو لي أن شباب الثورتين في تونس ومصر لم يعوا هذه الحقيقة ، وكذلك ثوار ليبيا واليمن وإن اختلفت ظروف المواجهة في هذين البلدين والتي قد تأخذ الثورات فيهما وقتا أطول لتحقيق أهدافها وبلوغ غاياتها ، وقد تحتاج إلى تضحيات أعظم بسبب طبيعتيهما … ( 5 ) كان على قادة الثورة في مصر ومن قدر الله لهم استلام السلطة برلمانا ورئاسة ، أن يعوا حقيقةَ أنه لا يمكن لهم أن يغيروا أوضاعهم ، كما ويستحيل عليهم أن يزيلوا كابوس الاستبداد من على صدروهم ما داموا يستعملون أدوات السيد الحاكم … كان لا بد من التمرد على هذه الأدوات التي لم يكن منها مثلا الثورات الشعبية المليونية السلمية الداعية إلى تغيير النظام ، وليس إلى إصلاحه … تغيير وليس إصلاح … وبأدواتٍ هي ملك الشعب ومن إنتاجه ، وليست ملكَ الحاكم أو السيد … بذلك أصبح الشعب حرا وإن لم يتحرر بعد … المطالبة بالتغيير لا بالإصلاح معناه رفض أسلوب الترقيع والتغيير من الداخل ، فالداخل هذا لا علاقة له بالشعب وبمصالحه الحقيقة ، ولكنه الطريق إلى ( تأبيد ) الدكتاتورية ( وتخليد ) الاستبداد … لم يكن الثوار في مصر ( وربما في تونس أيضا فمصيرها ما زال في علم الغيب حتى الآن ) في منتهى الحذر والانتباه من مغبة الانجرار إلى ساحة السيد المستبد ، وظلوا أسرى خداعه المكشوف لإرجاع ( القطيع ) إلى حظيرته من خلال القبول بقواعد لعبة لا تهدم بيت السيد تماما ، ولكنها تغير في طلاء جدرانه وترتيب غرفه على أكثر تقدير … ( 6 ) الشعب المصري أراد تغيير النظام كله من رأسه حتى قاعدته دفعة واحدة ، وليس إصلاحه ، وهذا لو حصل لكان صنع الفرق وحقق المعجزة .. ذكَّرني صديقي أثناء نقاشنا للموضوع بقولة مشهورة تعبر عن هذا المعنى لمناضلة نسوية سوداء ضد العنصرية في أمريكا ، حيث قالت : ( أدوات السيد لا يمكن أن تهدم بيت السيد . ) ( THE MASTER'S TOOLS WILL NEVER DISMANTLE THE MASTER'S HOUSE . ) هذا كلام صحيح ، خصوصا حينما يكون الأمر متعلقا بتغييرات جذرية تقلب الأوضاع رأسا على عقب ، بالمعنى الإيجابي طبعا ، وإلا فلا فائدة … الثورة في مصر لم تكن ثورة خارج نص النظام ، ولذلك لم تنجح في التغيير المطلوب ، فما زالت في مرحلة ما بعد البداية ، وما زالت تواجه تحديات خطيرة جدا تعمل على وقف حركتها بل وادانتها بفعل الانقلاب العسكري الدموي الذي افرج عن رموز النظام الذي ثار الشعب ضده بينما هو يعتقل الثورة ورموزها .. بناء البيت الجديد في مصر على أسس جديدة من الحرية الحقيقية والديمقراطية الحقيقة والتنمية الحقيقة ، معناه فعلا الزوال النهائي لنظام السيد القديم … هذا ما سيكون – في اعتقادي – في مصر في مرحلة ما بعد زوال الانقلاب الذي سيزول – إن شاء الله – بعز عزيز أو بذل ذليل ، طال الزمان أو قَصُر ..